يتوقف الإنسان حزيناً أمام صورة الاحتلال الجديد، بالأمس كنَّا نقرأ أخبار الاحتلال لبعض دول العالم الإسلامي الكبرى الذي أُطلق عليه تضليلاً «الاستعمار» فكان من أسماء الأضداد، لأن الاسم الصحيح الموافق لما يجري في البلاد التي احتلَّها مَنْ أسمى نفسه «المستعمر» إنما هو «الاستخراب»، نعم كنَّا نقرأ تلك الأخبار وأخبار حروب الاستقلال التي خاضتها الشعوب «المغلوبة» لإنقاذ بلادها من قبضة المحتلّ فنشعر بالاسى لتلك الصور الدامية التي تجري «ببركة المحتلِّين» وليس لهم بركة من نهب وسَلْبٍ وإيذاء للناس في دينهم وأخلاقهم وأعراضهم، وعدم مبالاة بكرامتهم وحرّيتهم، وعدم تقدير لفورة مشاعرهم وثورتها بسبب احتلال بلادهم، ونُتْبع زفراتنا بحمد الله وشكره على ما تحقَّق لتلك البلاد وشعوبها من الاستقلال الذي خلَّصها من قبضة المحتلّ «المستخرب»، مع ما نشعر به من الأسى الذي توقده حالةُ تلك البلاد في ظلِّ حكوماتٍ وطنية ينقصها الشعور الصحيح بالوطنيَّة فتظلم وتقتل، وتجور، وتصادر الحقوق، وتعتدي على حرية الدّين، ويصيبها داء «التوحُّش» الذي يقضي على الشعور بالرحمة والعطف والاشفاق، ويميت الإحساس بالخوف من الله عزَّ وجل. نعم نقرأ، فنحزن ونرضى ونأسى، ويبقى ما جرى في تلك الحقبة تاريخاً بالنسبة إلينا تجمع أحداثه بين الإدهاش والإثارة، وتحقِّق قراءته قَدْراً من المتعة المقرونة بمتعة القراءة، والحصول على المعلومة، والاستفادة من الدروس والتجارب. ويظل ذلك الذي نقرؤه تاريخاً بعيداً أو قريباً حزيناً أو سعيداً، أمَّاما نعيشه هذه الأيَّآم من صور الاحتلال الجديد فهو الواقع الذي تراه العين وتسمعه الأذن، ويدمى له القلب، إنَّه احتلال في عصر ادَّعاء مراعاة حقوق الناس، وبلوغ البشرية رشدها، عصر الثقافة والإعلام والاختراعات والتطُّور الفكري والثقافي، عَصْر المظاهر البرَّاقة والكلمات الناعمة التي يلقيها القوَّاد والرؤساء الذين ينمقون كلاماً لا علاقة له بواقع الأحداث. شعرتُ أن بريق الكلام يثير في القلب أحزاناً لا تهدأ، ويوقد آلاماً لا تخبو نارها، ولا يذهب أُوارها، لأن العين ترى من الأفعال ما يناقض معظم ما تسمعه الأذن من الكلام. ومع ذلك كلِّه فقد وجدتُ أثناء قراءة تاريخية نصَّ خطاب وجَّهه نابليون بونابارت إلى جنوده الفرنسيين حينما قدموا إلى مصر لاحتلالها، ووجدت فيه من العبارات الرقيقة، والمعاني الجميلة ما لم يكن له من الواقع بعد ذلك ما يصدِّقه، ولا من الأفعال ما يحقِّقه، ومع ذلك فإني أرى أن كلام نابليون يصلح أن يكون رسالةً مباشرةً موجّهة إلى جند الاحتلال الجديد في عراق التاريخ، يقول نابليون مخاطباً جنوده: إنَّ الشعوب التي سنعيش معها تدين بالدين الإسلامي، وقاعدة إيمانها الأولى «لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» فلا تعارضوها بشيء من الأشياء، احترموا المفتين والأئمة، وكونوا متساهلين لإقامتهم الاحتفالات المنصوص عليها في القرآن الكريم، لتكريمهم المساجد، فستلقون هنا عادات واصطلاحات تختلف عمَّا ألفتموه في أوروبا فيجب عليكم أن تتعوَّدوا العمل بموجبها، إن الشعوب التي سنخالفها تحترم النساء وتعاملهن بخلاف ما نعاملهنّ به، ويظل المغتصب وحشاً ضارياً عند الجميع، إنَّ النَّهب لا يغني إلاَّ فئة صغيرة من الناس، ولكنَّه عار كبير على فاعله ومَنْ ينتمي إليهم»، ثم أذاع نابليون نشرة تقضي بالموت على كل جندي فرنسي يقدم على النَّهب والاغتصاب وإرهاق الناس بدفع الضرائب واختلاس أشياء القوم. كلام جميل موجَّه من نابليون إلى أصدقاء مهنته في هذا العصر، فهل يمكن أن يكون لهذا الكلام «المعسول» مكان في بلادٍ مازالت مدامع حزنها تجري؟؟ إشارة: يا سؤالاً مات لم يلق جواباً عند قومٍ فتحوا باب الجنون