- 1 - لأن الشاعر طفل حقيقي يبكي أكثر مما يضحك ويحزن أكثر مما يفرح فلا عتب على الشعراء العرب إن امتلأت اعمالهم الشعرية بألوان من الشعر الفريد في بكائه وأحزانه سيما شعراء العراق هؤلاء الذين ملأت قصائدهم الدامعة صفحات الكتب وصفحات القلوب وفي الآونة الاخيرة من الزمن العراقي الأشد حزناً على وجه الخصوص حيث لم يعد في تلك الديار الا ما يبعث على الحسرة والاسى بعد ان سقطت بغداد في يد"دبليو هولاكو"وصارت الانتهاكات وجبة يومية لا يسلم منها طفل ولا عجوز وتجاوزت معها اساليب الاذلال كل المألوف والمعروف. كمال سبتي واحد من شعراء العراق الذين نفوا نفوسهم بقرار شخصي فراراً من ظلم ذوي القربى قبل ان يأتي ظلم الأبعدين ويبسط ليله الاسود الذي بلا أقمار ولا نجوم. وكان كمال كغيره من الشعراء المنفيين - قهراً او اختياراً - ينتظر ان يعود الى بلاده بعد ان تقيص الشعب من ظلم ذوي القربى لكن اقتصاص الشعب تأخر حتى جاء هولاكو الجديد وجنوده الذين أفسدوا وعاثوا في الارض والناس وأتاحوا الفرصة للفئات الضالة من أتباع اللعنة الطائفية من يقتلون على الهوية ويعملون لا على استئصال آراء المعارض بل على استئصاله هو ورأيه معاً. يفتتح كمال سبتي مجموعته الشعرية الجديدة صبراً قالت الطبائع الاربع بمعزوفة شعرية حزينة، حزن نفسه، وحزن العراق، وحزن كل انسان أوجعه وافزعه ما حدث ويحدث لبلاد الرافدين. عنوان المعزوفة او القصيدة جلسة قبل الحرب وهي توجز ما حدث ويحدث من دون ان تفسد المباشرة المعنى والصورة:"جلس الجميع على الأريكة متعبين: / الليل والاشجار والجندي والقمر الحزين، / يقول أولهم: تعبت من الظلام، / فتضحك الاشجار من ضوء القمر. / لكأنما كان القمر / يلقي على الجندي نظرته الأخيرة". ص7 تلى هذه المعزوفة الحزينة معزوفة اخرى أشد حزناً وأكثر تحديداً لمعالم الوجع الذي ألمّ بالناس والبلاد... وفي الشعر لا يرغب النقد الأدبي ان يجادل في الألفاظ وإنما يحلو له ان يقرأ ما بين سطورها، وتلك هي القراءة الصحيحة والأعمق للنص الأدبي الصاعد من الواقع بكل سطوحه واغواره:"بلادي التي سوف تذبح باسم الجميع / بلادي التي انجبتني، فقالوا: / لقد جئت شيئاً فريّا / بلادي التي شردتني / ولم تك، قالوا، بغيا / بلادي التي سوف تذبح باسم الجميع / بلادي التي تشبه البقرة / مسلّمة، لا ذلول ولا فارض، لونها كالذهب / بلادي الذهب / يشع بها في الظلام / بلادي التي لا تجيد الكلام / تسر الجميع / بلادي التي سوف تذبح باسم الجميع". ص10 لن أتحدث عن هذه التضمينات القرآنية، وأهمية العودة الى مدلولاتها الرمزية في اطار مفهوم المعادل الموضوعي الذي يحتفظ للنص الشعري بابعاده الفنية. لكن علينا ان نلاحظ ان كمال سبتي في منجزه الشعري الجديد يعتمد الايجاز والتقشف في استخدام اللغة على رغم تراكم الاسئلة واحتدام تراجيديا الواقع وما تتطلبه من المزيد من البوح العام والمراجعات الذاتية المنهمرة بسخاء لا مزيد له. -2- لم يعد الشاعر كمال سبيتي في قصائده الاخيرة معنياً بالشكل بعد أن طغت سخونة المواقف وأدركت المبدع حالة من الحذر تجاه كل نص عصي الفهم متهم بالغموض والالتباس، وفي ظل هذه المواقف يبدو الوضوح ونجاح الشاعر في ايصال المعنى الى المتلقي وكأنه فن في حد ذاته. وعندما يبكي الطفل، والشاعر - كما سبقت الاشارة طفل كبير - لا وقت لديه تنغيم البكاء ولتنظيم عفويته التي لا تزيد على أن تجعل منه ترجمة مباشرة وصادقة لمشاعره، وهي الصفة التي يمكن ان نطلقها بأمانة على قصائد الشاعر كمال سبتي الأخيرة وبخاصة منها تلك التي تتناول محنة بغداد وما آلت اليه بعد وقوعها في براثن الاحتلال الدامي وما أسفر عنه سقوطها من ردود افعال آنية في قلوب العرب قاطبة والعراقيين على وجه الخصوص. وليس بالجديد القول بأن كمال سبتي كان من شعراء العراق المسكونين بالمغامرة الشكلية بصفته واحداً من جيل التمرد على الاشكال المألوفة في الشعر، لكن واقع العراق اليوم، وحالة الارتداد التي ألحقها الاحتلال بالوطن وبالفنون والأداب قد جعل شاعرنا يعود الى مرحلة القصيدة/ الموقف ليتمكن من استنطاق الراهن المخيف بغض النظر عما يتحقق لهذه القصيدة من تشكيل ومن مقومات التجربة الفنية أو لا يتحقق: هي مجزرة../ قل أي وربي/ ودع السكينة جانباً،/ واشتم كتائب كل حرب/ قل أي وربي../ واشتم عبيد المال/ واشتم دعاة الموت/ من شعراء سمسرة ونصب/ قل أي وربي..". ص 11 ان الواقع بسخونته وردود افعاله هو ما يجب أن يأخذه الناقد في الاعتبار عند تعامله مع نصوص هذا الواقع الساخن التي تسعى الى ان تستنطق تفاصيله، وان تجد بغيتها في هذا التكرار وما يقدمه من مفاتيح تعمل على تسهيل مهمة الدخول الى هذا العالم المخيف، عالم المجازر الذي هو عالم الحرب والمال والنصب، عالم دعاة الموت الذين يبيعون سكينة الانسان وأمنه بل حياته في أسواق تجارة الشعوب التي صار لها تجارها وسماسرتها. ويفاجئ النص - وهو شديد التكثيف - قارئه بالاشارة الى شعراء يشاركون في هذه المزادات ولا يترددون في أن يلوثوا ضمائرهم وجيوبهم بدماء المجازر التي كل ضحاياها من أهلهم كما توحي بذلك الدلالة المباشرة لهذا النص المفعم بالتوتر والوضوح. في المجموعة نص آخر بعنوان أمام القاضي يتمتع بقيمة تخييلية عالية على رغم واقعيته المفرطة وينطوي على مقدرة هائلة في رسم مشاعر الفقراء من المواطنين الذين يقتلهم حزنهم المتعاظم على الوطن المدنس بالاحتلال في حين أنهم لا يمتلكون على ظهر هذا الوطن ولا في باطنه شيئاً يجعلهم يبكون عليه:"لو كان في البلاد لي مال/ بكيته كصراف عجوز/ لو كان في البلاد لي بيت/ بكيته كمالك البيوت/ لكنما أنا فقير كل عمري سيدي القاضي، واذ أبكي فلا أدري لماذا؟/ يعقل أن أبكي أم البلاد للصراف/ والمالك يحصيانها مالاً وأملاكاً/ لهذا/ لا يبكيان مثلي،/ لن يضيع منهما ما قد يضيع/ مني ومن غيري، ولا أدري لماذا؟"ص 13 أخيراً، تبقى الاشارة الى هذه الغنائية الباكية التي تغمر قصائد كمال سبتي بموسيقاها الحزينة، وبالتأكيد فهي لم تكن مصادفة وانما جاءت انعكاساً حقيقياً لفرط الوجع الذي يغمر قصائد المجموعة كلها.