إذا جاز لك ان تسأل العائدين من غياهب الغربة بعد سنوات الدراسة الطويلة في إحدى الدول الأوروبية أو في شمال القارة الأمريكية، عن مكان تلقيهم علومهم الدراسية وحصولهم على شهاداتهم العليا بكل ماتعنيه كلمة (مكان) من معنى أو تعبر به عن واقع! سواء بالنسبة للوضع الجغرافي أو الإمكانات والخدمات المتوفرة أو تعداد السكان أو خلاف كل ذلك! فلا تستغرب أو تستغرق في الدهشة ان قال هذا المغترب أو ذاك، إنه درس في قرية صغيرة على أطراف الريف الانجليزي أو في أحضان الطبيعة الفرنسية، أو قال آخر إنه تعلم في بلدة لايتجاوز عدد سكانها عشرة آلاف نسمة، تقع في بلاد النسر الأصلع بامتداد غابات الأمازون الأمريكية!! وذلك على خلفية معرفتنا المترسخة عن وضع القرية لدينا التي قد تخلو من مدرسة للمرحلة الثانوية فضلا عن كلية مهنية!! أو حتى المحافظة الصغيرة (البلدة) التي لم تشهد على طول البلاد وعرضها حالة واحدة بوجود فرع لجامعة أدبية كانت أو علمية أو كلية تقنية يمكن ان تسجل سابقة في تبدل الأحوال التعليمية العليا بالالتفات إلى مناطق الظل في واقع التنمية الوطنية. مرجع رفض الاستغراب هنا وإيقاف الاستغراق بالدهشة! رغم ان ماقد تسمعه يبرر استجلابه!! ان القرية أو البلدة التي نسميها تأدباً (المحافظة الصغيرة)! لها شأن آخر في قاموس التنمية الغربية، بل وتأخذ موقعاً راقياً في نظرة التوجهات الحضارية هناك!! بمعنى ان القرية أو البلدة في البلدان الأوروبية أو الأمريكية لا تتسربل بمفهومنا الضيق عنهما! لا من حيث الإمكانات والخدمات المقررة لهما، ولا من حيث العقليات التي تديرهما! ولا حتى النظرة أو التطلعات المستقبلية بشأنهما!! لذلك حينما تدخل قرية أو لنقل بلدة سواء أوروبية أو أمريكية تجدها نسخة عن مدينة متقدمة، يتوفر فيها كل متطلبات الحياة الحديثة، ولكن بحجم أصغر وعدد سكان أقل، ناهيك عن خطوط الاتصال بما حولها وبالذات الطرق البرية المتطورة. هنا يأتي السؤال فاغرا فاه لعظمة استفهامه، يريد لقم الإجابة!! ماهو السر في بقاء سكان القرية أو البلدة الصغيرة في مواطنهم، ولم يحدث لهم ما يسمى النزوح القروي (الريفي) نحو المدن المجاورة؟! هل وفرت الدولة هناك كل الخدمات المطلوبة، وتحديداً الصحية والتعليمية والاتصالات البريدية والهاتفية، كون هذه الخدمات تعتبر الأسس التنموية لأي مجتمع مدني متحضر! أم ان أولئك السكان طراز فريد من البشر يصنعون الحضارة من قشة التبن؟! عفوا!! لا هذا ولا ذاك! بل قد تعجب إن مايحدث هناك هو العكس، أي نزوح مدني إن جاز التعبير! فأهل المدينة هم من يقوم بالانتقال للعيش في القرية أو البلدة!! فكان هذا سبباً في تحول قرى إلى مدن جديدة!. ولكي تعرف السر، سأحملك إلى بلدة أوروبية، قدر الله لي زيارتها والعيش فيها قرابة الثلاثة أسابيع، تعاملت خلالها مع أهلها وعرفت شيئا من طبائعهم ونمط حياتهم، وكذلك عرفت حقيقة السر في بقاء القرى و(المحافظات الصغيرة) على وضعها الاجتماعي مع تقدمها الصناعي والحضاري، كما صادفت الكثيرين من أهل المدن المجاورة الذين اختاروا العيش فيها. هذه البلدة التي كانت في الأساس قرية، تقع في الجزء الجنوبي الألماني، وهي قريبة من مدينة ميونخ الشهيرة، كما تبعد عن فيينا عاصمة النمسا مسافة ساعتين في القطار، يتكون اسمها من شقين، الأول (دقن) والآخر (دورف) ومفردة (دورف) تعني باللغة الألمانية (قرية)! أي انها (قرية دقن)! لكن الزائر سيتكون انطباعه العفوي من الوهلة الأولى على أنها بلدة واضحة المعالم، ان لم تكن مدينة صغيرة! وإن كانت بالأساس قرية، بيد أنه مع العجلة التنموية على درب التطور الحضاري الذي عم المانيا تحولت إلى بلدة متقدمة تضع أقدامها بثبات على عتبة الدخول إلى نادي المدن المتقدمة في الدولة الألمانية. عندما تتجول في شوارع (دقن دورف) فإنك حتماً ستلمس بقايا ملامح القرية، خاصة منطقة الوسط بأزقتها القديمة وشوارعها المرصوفة بالحجر، وكذلك بصغر اتساعها الجغرافي الذي قد يقارب من حيث المساحة الإجمالية محافظة (بقعاء) بمنطقة حائل!! بل إنك بسهولة تدخل في نمطية الحياة المعيشية التي لاتتحقق إلا في أماكن تأخذ طابع القرى أو البلدات أو المدن الصغيرة فالشوارع والطرقات تكاد تخلو عند الساعة السادسة مساء والأسواق تغلق عند السابعة مساء بينما البنوك فيه تعمل مابين التاسعة صباحاً وحتى الرابعة بعد الظهر وأشياء أخرى لايتسع المجال لعرضها. ما نود الوصول إليه، ان محافظة (دقن دورف) على حيويتها وعدم سقوطها فريسة للداء الاقتصادي المسمى (النزوح الريفي) خصوصاً وانها على مقربة من إحدى المدن الكبرى وهي مدينة (ميونخ) لا يرجع ذلك إلى وجود كليات أو جامعات علمية أو مرافق حكومية يتكدس فيها الموظفون بانتاجية لاتتجاوز مانسبته (50%) إنما لأن القطاع الخاص مدرك حقيقة دوره في الحركة الاقتصادية وان اسهامه في تنوع مصادر الدخل لايعني التقوقع في المدن الكبرى أو الرئيسة ومجاورة السوق ونقاط البيع وأرصفة الشحن إنما يتعداها إلى القرى والبلدات (المحافظات الصغيرة) وهو ما حدث في (دقن دورف) فالذي شاهدته هناك كان أقرب للأعجوبة الصناعية عندما دخلت مصانع وفروع شركات تعتبر عملاقة في ألمانيا، لم يمنعها ان تأتي لهذه القرية فالمحصلة النهائية تعزيز الاقتصاد الألماني مقابل المحافظة على التوزيع السكاني والصبغة الاجتماعية لكل منطقة بعد هذا صار من الطبيعي ان تأتي دوائر المال ووراءها البنوك وان يرتقي التعليم ويتطور جانب المواصلات فتجد في (دقن دورف) محطة قطار تربطها بشبكة القطارات في ألمانيا جعلت المواطن الألماني يقبل ان يعمل في هذه البلدة التي كانت يوما ما قرية رغم ان أصوله قد تعود إلى الطرف الشمالي من ألمانيا وأمور أخرى يشاهدها كل زائر. في حين نجد ان النزوح الريفي (القروي) ينخر في قرانا حتى تجاوزها إلى المحافظات الصغيرة فزيارة واحدة لإحدى القرى يكشف الستار عن ملامح ذلك النزوح بل ان بلدة (محافظة صغيرة) من القريبات لمدينة رئيسة تفتقر لخدمات كثيرة، بينما تعاني المدن الكبرى ارتفاع معدلات السكان، مما أثر بشكل مباشر على مستوى الخدمات المقدمة وسبب ارتفاع واضح في مؤشرات التكاليف المعيشية والعقارية والتعليمية والصحية. أنموذج (دقن دورف) ليس ابتكاراً عبقرياً إنما تخطيط متبوع بجهات خاصة وأهلية استلهمت دورها الوطني في منع حدوث الخلل في التركيبة السكانية وتوزعها على المحيط العام للدولة والاستفادة من مناطق بكر، والمساهمة في بناء مدن حديثة ليتكامل فعليا مع الدور الحكومي في تنمية الحدث الاقتصادي لهذه البلدة أو تلك المدينة، وعليه يأتي السؤال المعضلة كم (دقن دورف) لدينا؟!.. أخشى ان يكون الجواب لا شيء! لأننا لازلنا نعمل بعقلية المدن الكبيرة التي يجب ان يكون فيها كل مظاهر التنمية! حتى لو خلف ذلك كماً هائلاً من المحافظات الصغيرة على مشارف داء النزوح الريفي! يجاري هذا نقص في المدن المتوسطة لمتطلبات رئيسة كالتعليم العالي أو الشركات الكبرى و(منطقة حائل) بمدينتها وباقي محافظاتها أو الإقليم الشمالي عموماً خير شاهد.