إذ نظرنا إلى خدمات النقل سواء تلك الموجهة للركاب أو للبضائع في معظم دول العالم المتقدم، نجد أن النقل بالسكك الحديدية يعتبر عموداً فقرياً لبناء النهضة التنموية في تلك البلاد. ففي الشرق (كما هو الحال في اليابان) وفي الغرب (كما في بريطانيا والولايات المتحدة) لعبت القطارات دوراً تنمويا هاماً في بناء اقتصاديات تلك الدول وما زالت. وبمقارنة خدمات تلك النوع من أنظمة النقل بين الغرب او الشرق مع الموجود حاليا في المملكة، نجد البون الشاسع ويتبين حجم الفارق وعظم الحاجة لتلك الخدمة في المملكة. في هذه العجالة نحاول تسليط الضوء على أهمية بناء شبكات سكك حديد تربط المدن الرئيسة الثلاث (الرياض، جدة، الدمام) بالمدن الصغيرة والمتوسطة القريبة. والهدف هو: (1) تخفيف الزحام والاختناقات المرورية في تلك المدن الكبيرة، و(2) تنمية المدن الصغيرة والمتوسطة لتصبح مدن إقليمية تجذب سكانا من المدن الرئيسية فيما يعرف باسم الهجرة المعاكسة. وتؤثر القطارات والسكك الحديدية على حياة الناس بطرق متعددة ربما يصعب حصرها أو تخيلها. ففي معظم المجتمعات الشرقية (كاليابان مثلاً) والغربية (مثلا أوروبا) يكون الاعتماد على النقل بواسطة السكك الحديدية وخاصة فيما بين المدن ضرورة ملحة وحقيقة ماثلة أمام الأعين، بل أن عجلة الاقتصاد والتنمية تعتمد اعتماداً شبه كلي على النقل بالقطارات وذلك لما لها من ميزات تتفوق بها عن مثيلاتها من وسائل النقل الأخرى. إذ ينظر إلى القطارات على أنها وسائل نقل آمنة وغير مكلفة مادياً وتوفر الراحة في الحركة داخل المركبة (العربة). كما أن النقل بالسكك الحديدية وسيلة نقل صديقة للبيئة. ويعزز دور القطارات في مجال نقل الركاب، أن محطاته تقع في وسط المدينة، على عكس المطارات. كما أن بعض القطارات لديها القدرة على حمل السيارات الخاصة مع الركاب ضمن عربات مخصصة لذلك، مما يسهل حركة الركاب لاحقاً. وتعتبر الدول الأوربية وخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا رائدة في مجال نقل الركاب بواسطة القطارات السريعة التي تعد وسيلة تنقل مفضلة لنسبة كبيرة من السكان وذلك لأن القطارات توفر خدمة الوصول إلى مقصده دون عناء. كما تعد القطارات وسيلة التنقل الأكثر استخداما في ألمانيا سواء للتنقل من مكان إلى آخر داخل حدود ألمانيا أو للتنقل إلى الدول الأوروبية الأخرى. ولا غرابة في ذلك، حيث تدعم حكومات الدول الأوربية النقل بالقطارات فيما بينها. ومع افتتاح نفق القنال الإنجليزي في عام 1993م، زاد حجم الطلب على السفر بواسطة القطار بين بريطانيا وأوروبا بشكل كبير، حيث تم إنشاء قطار يوروستار (Eurostar) الذي يعد قطار فائق السرعة يستخدم شبكة لسكة حديد تعبر تحت القناة الانجليزية بين لندن وباريس. وعلى الرغم من أن بذرة السكك الحديدية في المملكة كانت في عام 1366ه وتأسيس المؤسسة العامة لسكك الحديد في عام 1386ه، إلا أن خدمات النقل بسكك الحديد في المملكة متواضعة وخاصة فيما يتعلق بنقل الركاب المحصور فقط على خط يربط الرياض بالمنطقة الشرقية الذي لم يتجاوز حجم الاركاب على ذلك المسار في عام 2008م مليون ومائتين ألف راكب. وفي عام 1429ه تم إنشاء هيئة الخطوط الحديدية التي وجهت جل اهتمامها إلى بناء سكة حديد الشمال بهدف نقل المواد الخام من شمال المملكة إلى الجبيل. في حين أن أول و أبرز مهام الهيئة إصدار التراخيص لمقدمي خدمات النقل بالخطوط الحديدية، التي يمكن أن تترجم إلى طرح منافسات لإقامة شركات نقل بالسكك الحديدية على غرار ما هو قائم بالنسبة للنقل الجوي، حيث يوجد عدد من شركات النقل الجوي العاملة في المملكة. وخلافاً لما هو قائم من نقل للركاب بين المنطقة الشرقيةوالرياض وقطار الحرمين الشريفين، فإن التركيز فقط على نقل المواد الخام يعد مثلبة، إذ يتوقع أن تكون الحصة المتوقعة لقطاع السكك الحديدية لنقل الركاب تصل إلى 12.5% من إجمالي نقل الركاب في المملكة للمسافات الطويلة (850 – 980 كم). بنسبة نمو تصل إلى 3.7% سنوياً حتى عام 2025حصة، وذلك حسب ما ذكرته الخطة المستقبلية للنقل في المملكة العربية السعودية لعام 2025. يعزز أهمية الاستثمار في مجال السكك الحديدية حقيقة أن حصة النقل الجماعي في النقل بين المدن في تزايد مستمر، إذ بلغ عدد الركاب المنقولين بين المدن بواسطة النقل الجماعي حوالي 7 مليون راكب سنوياً في عام 2008م. هذا بالإضافة إلى حقيقة ما تعاني منه شركات الخطوط الجوية العاملة في المملكة من قصور في الأداء. وبالتالي فإن طرح فكرة إنشاء شبكة لسكك الحديد لنقل الركاب في المملكة فكرة لم تأت من فراغ، بل هي وجهة نظر مدعومة بإحصائيات تفيد بوجود سوق متنامٍ من جهة وتدني في الأداء لشركات النقل الجوي من جهة أخرى. د. سعد الحسين فمن المتوقع أن يصل عدد سكان المملكة في عام 2020م إلى 39 مليون نسمة و47 مليون في عام 2030م، يتركز معظمهم في المدن الرئيسة. وحيث أن الكثافة السكانية في المملكة تتركز على شريط من الشرق إلى الغرب، أي أن حاضرة الدمام وحاضرة الرياض وحاضرة جدة هي البؤر الرئيسة الثلاث في المملكة، فإنه يمكن لهيئة الخطوط الحديدية بناء ثلاث شبكات سكك حديدية مراكزها الرياضوجدةوالدمام . أما بالنسبة لمنطقة مكةالمكرمة حيث يوجد مشروع قطار الحرمين، فإنه من الأفضل أن يتم ربط الطائف والباحة في الشبكة. ومع تفاقم مشكلات النقل داخل المدن، فإنه يبدو ملحاً ومنطقياً أن يتم تعزيز النقل بين المدن الكبرى والمدن الصغيرة المجاورة مثل الخرج والمجمعة بالنسبة للرياض والهفوف بالنسبة للدمام والطائف بالنسبة لجدة. وبالتالي، فإن تبني مشروع قطار سريع يربط المدن الرئيسة بما جاورها من مدن سوف يحل مشكلة الاختناقات المرورية في المدن الرئيسية كما أنه يعزز فرص السكن خارج تلك المدن المكتظة بالسكان. أي أن إنشاء قطار سريع بين الرياض والمجمعة مثلاً سوف يعزز فرص السكن في المجمعة. هذا بالإضافة إلى أن بناء شبكات السكك الحديدية يعد من البنى التحتية التي تحتاجها البلد وذلك من أجل الأجيال القادمة. وبالتالي فإن بناء سكك حديد تربط المدن الصغيرة بالمدن الكبيرة في المملكة يعد خياراً تنموياً واستراتيجياً لبناء المستقبل. ومع التقدم في صناعة وتقنية القطارات بكافة أنواعها، فإنه ينظر إليها الآن على أنها المنقذ لمشكلات المدن من اختناقات مرورية وتلوث بيئي. إضافة إلى ذلك تلعب القطارات دوراً اجتماعياً، حيث تمكن خدمات القطارات المتطورة من إعادة توزيع السكان وتقلل من فرص التركز "غير المنطقي" للسكان في المدن فقط، وتجفيف للقرى والمدن الصغيرة. إذ انه في حالة بناء تلك السكك، فانه من الجلي أن تعيد تلك الخدمات الروح إلى المدن والقرى المجاورة للمدن الكبيرة مثل مدينة الرياض. فإذا ما تم بناء قطار سريع يربط المجمعة أو الخرجبالرياض، فإنه من المتوقع أن تكون المجمعة و الخرج جاذبة للسكان من الرياض. ومن الفوائد المرجوة من بناء شبكة السكك الحديدية ما يلي: يعزز تحويل الحركة المرورية من النقل الجوي أو السيارات إلى النقل بالقطارات السلامة العامة وجودة الهواء وذلك من خلال تقليل الزحام وتخفيف التلوث الذي يؤثر على الحياة العامة. إيجاد خدمات النقل بسكك الحديد يوفر نقلاً رخيصاً نسبياً بالمقارنة مع النقل بالطائرات أو الحافلات. يتيح بناء نظام النقل بالقطارات بين المدن إلى إعادة توزيع الاقتصاد ويخلق فرص تنموية للمجتمعات الصغيرة والمتوسطة (مثل المجمعة). يوفر وجود نظام النقل بسكك الحديد بين المدن فرص استخدامه في الحالات الطارئة، كنقل الجنود والمعدات. النقل بالقطارات يقدم فرصة لهؤلاء الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون بالتنقل جوا أو بالسيارة الخاصة. تعد القطارات ثاني وسائل النقل (بعد النقل الجوي) من حيث السلامة المرورية، متخطية بذلك النقل بالسيارة الخاصة والنقل بالحافلات. ولنجاح خدمات النقل بسكك الحديد، فلابد أن تمتاز بعنصرين: السلامة والسرعة، كما هو الحال بالنسبة لقطار الرصاصة (Bullet Train) الياباني الذي يعتبر أحدث ما توصلت له التقنية اليابانية من حيث مواصفات السلامة والسرعة في الحركة، فهو أشبه ما يكون بطائرة إلا انه بدون إشكالات الطيران من حيث الإجراءات والتوقيت، كما أن النقل بسكك الحديد ينقلك من وسط المدينة ويوصلك إليها. أخيراً، يجب أن تخضع مثل هذه المقترحات إلى دراسة تحدد الجدوى الاقتصادية منها وفقاً لتحليلات التكلفة والمنفعة (Cost Benefit Analysis)، إلا أنه يجب القول إن مثل هذه الاستثمارات هي في الواقع تبنى للأجيال القادمة. آمل أن يحظى هذا المقال بدراسة متأنية وعميقة من قبل هيئة الخطوط الحديدية لبناء شبكات سكك الحديد لنقل الركاب في المملكة. وفق الله الجميع لخدمة وطننا المعطاء، وللجميع مودتي. * أستاذ مشارك – جغرافية النقل ,جامعة الملك سعود