في غضون السنين ال 50 الماضية، انتفل 800 مليون صيني من الريف إلى المدن، وهاجرت أعدادٌ ضخمة من الناس لأنّ النزوح اكتسب مزيداً من الزخم مع النمو الاقتصادي السريع، وكي يتاح لسكان الريف التمتع بوسائل الراحة المتوافرة في المدن. وتتركّز الهجرة الريفية عموماً الى العاصمة في أي بلد، إلى جانب بضع مدن كبيرة أخرى، حيث يوجد العدد الأكبر من المؤسسات التجارية والصناعية. وهذا يصح في الصين على بكين وشانغهاي ومدن أخرى كثيرة. الصين بلد العجائب، بحسب الرحّالة العرب والأوروبيين القدماء والمعاصرين. وفي مجال النمو الاقتصادي، هي تعتبَر بلد المعجزة، خصوصاً في العقد الماضي. فالقفزات التنموية المالية والصناعية والزراعية التي سجِّلت في الصين، كانت بمعدلات غير مسبوقة ما أوصل معدلات النمو إلى 12 و13 في المئة. لكن هذا الإنجاز حصل تحت غطاء من التخلف والحرمان والفقر، خصوصاً في القرى الصينية التي لا تزال تشهد نزوحاً قوياً في اتجاه المدن. يبلغ عدد سكان الصين اليوم بليوناً و300 مليون شخص، منهم 900 مليون ريفي يبلغ 500 مليون منهم سن العمل، لكن المؤسسات الريفية تؤمّن بضع عشرات من ملايين فرص العمل فقط، ولا يحتاج الإنتاج الزراعي في سقفه الحالي أكثر من 100 مليون ريفي، وهذا يعني أن هناك 300 مليون إلى 400 مليون عامل ريفي عاطل عن العمل. وليس ال 130 مليون ريفي الذين يعملون في مدن الصين سوى نقطة بداية. ويرى خبراء كثيرون أن ظاهرة تحول عدد كبير من الأيدي العاملة في الريف إلى مجالات غير زراعية نتيجة ضرورية في حركة اقتصاد الصين السريع تجاه التصنيع والتحول الحضري. وفي الوقت ذاته، يلعب الريفي المقيم في المدن دوراً تنموياً متزايداً في الاقتصاد الريفي، فعام 2003 بلغت تحويلات الريفيين خارج مقاطعة خنان الريفية إليها 52.8 بليون يوان. وكان إجمالي الناتج المحلي لسبعة ملايين ريفي من مقاطعة آنهوي الريفية في كل أنحاء البلاد مساوياً لإجمالي الناتج المحلي للمقاطعة، وتبلغ تحويلات هؤلاء العمال الريفيين إلى موطنهم 30 بليون يوان سنوياً، وهو مبلغ يزيد عن الإيرادات المالية المحلية لآنهوي. وبفضل هذه الأموال، تحسنت حياة الريفيين وتطورت الأرياف، فبنِيت منازل ومدارس وحدِّثت طرق وبنية تحتية. ويحمل بعض الريفيين الذين يعودون من المدن الكبيرة والحديثة إلى الأرياف لإنشاء شركات وأعمال، فكراً تنموياً جديداً. لكن مشاعر الإحباط وافتقاد الشعور بالمساواة أو تكافؤ الفرص، لا تزال ملموسة لدى سكان الأرياف في الصين الذين يصل عددهم إلى نحو 800 مليون نسمة، معظمهم من الريفيين الذين يتخبطون في البؤس، لأن التحولات الاقتصادية حصلت فقط في المدن ومصانعها. وعلى رغم ازدهار الاقتصاد الصيني، ظلت الأرياف تعاني التخلف والفقر والشقاء. تؤكد الأرقام إن 130 مليون ريفي يعيشون ويعملون في المدن الكبيرة. ويساوي هذا الرقم نصف عدد سكان الولاياتالمتحدة ويتجاوز عدد المدينيين العاملين في المدن. وسط هذه الملابسات، انعقد في أوائل آذار (مارس) الماضي «مؤتمر الشعب الوطني»، وهو بمثابة برلمان الصين الذي يجتمع مرة سنوياً، وتستغرق اجتماعاته 10 أيام متتالية. وأمام هذا الحشد من مندوبي الشعب الصيني وممثليه، ألقى رئيس الوزراء خطاب «حال الأمة» السنوي التقليدي، فإذا بالخطاب يكشف عن أن الأمة الصينية تعاني حالاً من الانقسام الحاد بين سكان المدن ونظرائهم ومواطنيهم من سكان الأرياف. ووعد الخطاب بمواصلة مسيرة التنمية متوخياً زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ثمانية في المئة وهي نسبة متواضعة، في حين أن النسبة الحقيقية كما يتوقعها خبراء الاقتصاد العالمي تصل إلى 9.9 في المئة. كانت ثورة ماو تسي تونغ، التي دمرت نظام كاي شنغ القديم وغيرت كل مرافق الحياة في الصين، في جوهرها ثورة ريفيين، وكانت أرياف الصين قاعدة انطلاق «المسيرة الكبرى» لماو ورفاقه وتعاليمه. وهذا مما يبرز أهمية دور الأرياف في التقدم الاقتصادي الصيني، خصوصاً أن هناك مصلحة مهمة جداً في إصلاح التفكير حول مسألة الريف والتدفق السكاني منه إلى المدن بسبب انقطاع فرص العمل والرزق وبحثاً ببساطة عن لقمة العيش، فهذه الجحافل التي تتجه نحو المدن الصينية يمكن أن تؤدي إلى خلل في التوازن الديموغرافي ومن ثم المعيشي والاقتصادي. عالمياً، يمثّل سكان الريف ما يتجاوز النصف -نحو 60 في المئة- من مجموع سكان الدول النامية. ويتوقّع أن تنخفض هذه الحصّة إلى 44 في المئة بحلول عام 2030 مع تدفّق الملايين إلى المدن في تحركّات إضافية. وسيفضي نزوح جماعي مستمر كهذا حتماً إلى نتائج بيئية واقتصادية واجتماعية ذات تداعيات بعيدة المدى، غير أن السياسات الزراعية الملائمة في وسعها أن تحقق الكثير بالنسبة إلى تنظيم نسبة النزوح الريفي إلى المدن والتخفيف من حدة الضغوط الواقعة على المراكز الحضرية. ويعني هذا فعلياً وجوب الحدّ من مستويات التلوث والازدحام والجريمة وتفشي الأمراض في الأماكن المكتظة سكانياً. * كاتب متخصص في الشؤون الديموغرافية - بيروت