من خلال حالة الجمود والتردي والتأزم التي تعيشها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، وفي الوقت الذي يُصعِّد فيه الاحتلال الصهيوني لعدوانه على كل ما هو فلسطيني، تبرز بين الحين والحين في أوساط ومحافل غربية معينة اهتمامات وتساؤلات مريبة، تمس جوهر القضية الفلسطينية. هذه الاهتمامات والتي لا تزال تطلق هنا وهناك تعطي أكثر من مؤشر إلى أن ثمة أشياء جديدة قد نضجت في فصول المسرحية، وتهدف فيما تهدف إليه إلى زيادة البلبلة وخلق الانقسام في صفوف الشعب الفلسطيني كما تهدف إلى تعميق مختلف التناقضات في الساحة العربية الممزقة الأطراف، والتي لم تحسم الأمور فيها بعد لصالح مقاومة المحتل. أحد هذه الاهتمامات قضية إصلاح السلطة الفلسطينية، فلقد كثر الحديث عن التغيير والإصلاح السياسي والإداري في أجهزة السلطة الفلسطينية، بعد الاجتياح الإسرائيلي لأراضي السلطة الفلسطينية في 29/3/2002م والخسائر البشرية والمادية الهائلة بالمدنيين والمخيمات الفلسطينية ورغم أن هذا الحديث قديم جديد، فإن النوايا مختلفة باختلاف المصدر والهدف. فبينما يريد الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون من التغيير المطروح وسيلة لتعيين قيادة فلسطينية جديدة تتعاطى مع الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، وذلك بجعل الفلسطينيين جزءاً من المشروع الصهيوني - الأمريكي في المنطقة، وبالتالي استعمالهم كقنطرة لتمرير مشروعاتهم التوسعية، فإن بعض اطراف السلطة التي تدعو إلى التغيير إنما تعني إلى احداث رتوش سطحية وتبديل زيد بعمرو من داخل البيت نفسه، من خلال العمل على الحصول على منصب في هذه السلطة يلبي طموحاتها الشخصية التي تلتقي مع المصلحة الأمريكية في فرض إرادة الاستسلام على الشعب الفلسطيني والتي عبَّر عنها الدكتور حسن الخريشا عضو المجلس التشريعي الفلسطيني بالقول: يوسفني أن أقول إن أهم ما تعلمناه من خلال المواجهات هو أن فلسطين بقرة حلوب عندما تدر الحليب يكون كل الناس موجودين في الوطن وعندما يجف حليبها يهرب هؤلاء من الوطن وبالتالي فإنهم يبحثون في كيفية تجديد حليب فلسطين حتى يبقوا في هذا الوطن ويمتصوا خيراته..!!. إنهم جمع غريب وخليط عجيب، التقوا في خط واحد دون اجتماع منسق ومهيأ له ومشوا في تظاهرة ليس لها برنامج رسمي ولا يجمع بينهم إلا الشعار بوجوب استبدال القيادة، جمع من المعترضين يزعمون أنهم معارضون ولكل واحد منهم أسباب اعتراضه وظروفه. منهم من يعارض لأن عرفات أجرى المفاوضات بمعزل عنه، أو لأنه لم يعطه صلاحيات واسعة أو لأنه استبدله في بعض المواقع بغيره أو لأنه لم يسلمه لجنة أو مهمة، أو لأنه أقصاه عن منصب أو مسؤولية كان يعتقد هو أنه يصلح لها.! إن التناقض واضح بين الإصلاح الوطني الذي ينشده الشعب الفلسطيني والذي ينطلق من ضرورة وطنية من خلال احداث اصلاح جذري في السلطة حتى تتلاقى مع إرادة الشعب في خيار المقاومة وفيما يخص البناء الداخلي لتعزيز صموده، وتحسين الأداء بشكل جذري خدمة لأهدافه في الاستقلال والتحرر، ولاسيما أن تقييماً شاملاً واستخلاصاً للعبر المناسبة لم يتم في الساحة الفلسطينية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، والإصلاح الذي تطالب به أمريكا وإسرائيل والذي يستهدف جعلنا جزءاً من المشروع الصهيوني للاستجداء ورفع الرايات البيضاء والاستسلام للعدوان الأمريكي والصهيوني وضمان الأمن لإسرائيل في انتظار أن تنضج الظروف للوصول إلى تسوية. فاهتمام الغرب الواضح والملح معاً، وفي هذه الآونة بالذات والمتمثل في اضعاف نفوذ الرئيس الفلسطيني واضعاف السلطة ثم التخلص منها نهائياً والعودة مجدداً إلى الحديث عن معرفة مَنْ يمثِّل الشعب الفلسطيني، والبالونات والصيغ المختلفة التي أطلقت عبر السنوات الماضية وهذه الأيام والتي كان آخرها استحداث منصب رئيس وزراء فلسطيني تحت ضغط خارجي من الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل واللجنة الرباعية لدرجة تسمية محمود عباس «أبو مازن» لهذا المنصب والاشتراط وقف المقاومة والانتفاضة قبل استئناف المفاوضات، وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه، هو أمر ليس بمستغرب.! فما هي حقوق الشعب الفلسطيني في مفهوم وزارة أبي مازن؟ ومن الذي يمثِّل هذا الشعب؟سؤالان كبيران، يبدو أن الانتفاضة مدعوة للرد عليهما بين الحين والحين لازالة كل الأوهام عند الذين يعتقدون أن المقاومة يمكن أن تتراجع وتحيد عن أهدافها الحقيقية، ولانهاء كل المبررات في عقول بعض الذين «يفلسفون وينظِّرون» لهذا التراجع والاستسلام من خلال الواقع المتردي المرحلي للأمة العربية ولتوجيه بعض الأقلام والتيارات الوطنية المشرعة للتشكيك والتندر بنوايا وأهداف الانتفاضة وأبطالها المخلصين، دون إدراك حقيقي لمعاناة الانتفاضة المحاصرة والمستهدفة في كل مكان. ومن هنا فإن ما يستجد اليوم من أحاديث عن حقوق شعب فلسطين، إنما هو في الحقيقة حديث عن «الانتقاص» من حقوق فلسطين يرمي إلى تفريغ مفهوم شعب فلسطين لحقه، من محتواه ومعناه، فالانتفاضة تعتبر حقوق شعب فلسطين هي حق الأمة العربية في كامل ترابها، وحق الفلسطينيين أن يعيشوا أحراراً عليه، كما تؤكد أن أبرز هذه الحقوق في ظل الاحتلال هو مقاومة الاحتلال. ويطرح السؤال التالي نفسه: لمصلحة من يسعى بعض المتنفذين في السلطة إلى إسقاط ياسر عرفات؟ سؤال يفرض نفسه علينا بعد أن تكاثرت الأخبار والمعلومات عن الجهود التي يبذلها العشرات من رفاق عرفات وأتباعه ومساعديه، وخاصة من أولئك الذين ساهموا معه في عملية التفاوض «العلني منها والسري» من أجل «خلع» الرئيس عرفات واستبداله في هذا الوقت بالذات الذي أصبح فيه «خلع الرؤساء» أسهل من خلع الأزواج؟! هل نحن في انتظار البيان رقم «1» من السيد محمود عباس «أبو مازن» الذي يعلن فيه طرد الرئيس ياسر عرفات من الأراضي الفلسطينية تحت ذريعة انفراده في اتخاذ القرارات المصيرية ورغبته في السيطرة على كل الاجهزة والمؤسسات والاتصالات وتحت حجة أن عرفات عنيد ومستبد ومتسلط ومزاجي.! وبالتالي يجب استبداله بأبي مازن وبداية العصر العباسي الأول لإنهاء البقية الباقية من القضية الفلسطينية.! كيف هبط الوحي فجأة على المعارضين الجدد «معارضي الساعة الأخيرة» من أصحاب الحظوة حتى الأمس القريب والذين شاركوا السيد عرفات في المسؤولية فأصبحوا يرددون كالببغاوات كلاماً أمريكياً أو دولياً أو حتى إسرائيلياً بأن عرفات غير ديموقراطي، وغير متزن، وغير منضبط وبالتالي غير مؤهل لقيادة السفينة الفلسطينية نحو الكارثة المطلوب أن تصل السفينة إليها بأسرع ما يمكن! وهناك سؤال يطرح نفسه لأبطال المعارضة الطارئة: مَنْ منهم كان ديموقراطياً في تعامله مع الشعب عموماً أو مع المؤسسة التي يديرها أو يسيطر عليها خصوصا حتى يطالب بتنحية عرفات لأنه غير ديموقراطي؟! إن المطالبة الأمريكية - الإسرائيلية بالديموقراطية الفلسطينية هي مجرد غطاء لتقوية أجهزة الأمن الفلسطينية التي يراد لها كسر شوكة الشعب الفلسطيني من خلال إنهاء الانتفاضة وضبط المقاومين وتجريدهم من الأسلحة! فالسلطة الأكثر ديموقراطية بالنسبة إلى بوش وشارون هي التي تضمن أمن إسرائيل وقياساً على ذلك فإن إسرائيل «تفضل أن يكون الرئيس الفلسطيني جنكيز خان وليس جيفرسون» كما يقول هنري سيجمان من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.!إن أحد قوانين التاريخ التي طالما أكدنا عليها سابقاً هو: أنه عندما يقع الاحتلال تسقط الشرعية الرسمية داخل الوطن، وتصبح الشرعية للمقاومة وحدها والمقاومة الفلسطينية المتمثلة بالانتفاضة كانت وستبقى حتى النصر لا تقاس بحجمها الحالي ولا بظروفها الحالية، وإنما تقاس بحجمها المستقبلي وقدرتها على الاستمرار.ومن هنا فإن الذين يقاومون الاحتلال ويرفضونه هم وحدهم المعبِّرون عن الشرعية والوطنية، وهذا يعني أنه ليس من حق طبقة أو فئة أو مجموعة لا ترفع السلاح في وجه الاحتلال أن تدعي تمثيل شعب فلسطين، والقرار هو قرار الأجيال الفلسطينية السابقة التي قارعت الصهيونية منذ العشرينيات من القرن الماضي وهو أيضاً قرار الأجيال الصاعدة التي لا يمكن ولا يجوز أن يكون ميدانها الإبادة أو الضياع أو العار، وكل واجب القيادات الحالية إن لم يكن حسم القضية لمصلحة المقاومة، فهو تسليم الأمانة للأجيال الفلسطينية والعربية المقبلة. وإذا كان التنازل والمساومة والتفريط تبدو وكأنها ردود فعل طبيعية في هذه المرحلة فإنها تبدو كذلك لأنها من طبيعة مرحلة الاحتلال ولا يعيب الشعب الفلسطيني أن يكون بعض متنفذيه ضالعين في ردود الفعل هذه، فلقد ظهرت في حالات احتلال الأوطان عبر التاريخ فئات تنازلت وساومت وفرطت، ولم يكن الجنرال «بيتان» أولهم ولا آخرهم في التاريخ المعاصر، ولكن الشعوب تعود فتطلب الثمن من كل هؤلاء مهما تأخر الزمن. (*) مدير تحرير جريدة الحقائق لندن