كان المعتمد حاكماً في قرطبة، جمع حوله الأدباء والشعراء والمثقفين، وعاش في عزة الملك، ورفاهية العيش، وبهجة الثقافة، وحام حوله الشعراء طمعاً في نواله، ورغبة في الاستئناس بمجلسه. وفي تلك الفترة، كان حكم الطوائف قائماً، وكان الصراع بين حكام الطوائف دائماً، وقد اكتوى ابن عباد بنار تلك النزاعات، وقد لجأ في آخر فترات حكمه إلى زعيم الموحدين ابن «ياشفين» غير أن الأمور لم تكن كما كان يريدها، فقد أخذ من عزه وسلطانه، وأودع في سجن «أغماد» في المغرب، ثم أخرج ليعيش من هبات المحسنين، وأثناء سجنه في «أغماد زاره بعض بناته في أحد الأعياد، فقال قصيدة رائعة تحكي واقعه ومنها: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءني العيد في أغماد مأسوراً ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردك الدهر منهياً ومأمورا لقد عبر هذا الملك السابق عن زوال عزه ووضع حاله القائم، لكنه نسي أنه قد ارتكب عدداً من الأخطاء التي جعلت مآله إلى ما كان، كما أن إرادة الباري عز وجل هي التي تسير هذا الكون الفسيح بما فيه، لقد تحدث ابن عباد عن بناته وقد أقبلن عليه حافيات، ذوات أسبال، وكأن هذه الأقدام الحافية لم تكن في يوم من الأيام تطأ على المسك والكافور لشدة ما كانت تملأ الفرش التي كن ينعمن بها. لقد كان آمراً ناهياً، فأصبح مأموراً منهياً، يأمره آمر السجن فيطيع، وينهاه فيمتثل، وهكذا. إن في ما قاله ابن عباد كثيراً من الأسى والحزن والألم، لكن فيه عبراً كثيرة، فهذه الدار لا تدوم على حال، وهذا دليل على أن الفتن لا تجلب الخير، وإنما يصاحبها المآل السيئ حمانا الله وإياكم، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه «من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، فكأنما ملك الدنيا» ومن الحكمة أن ينظر المرء إلى مَنْ حوله ويتعظ، ويحمد الله على نعمة الأمن والخير والطمأنينة، فإن الأمن والطمأنينة، ليس لهما ثمن، وما أحسب أن ذا لب إلا وينشد السلامة والعافية، جعلنا الله وإياكم من أصحابها. كم هي نعمة عظيمة أن نعود إلى منازلنا في كل ليلة آمنين مطمئنين، وكم هي نعمة عظيمة أن نسير في الشوارع دون مساءلة، والطمع في المزيد من عرض الدنيا أمر متاح، غير أن علينا أن نتذكر النعم التي نعيشها، ولنا في غيرنا عبرة.