في الأسبوعين الأخيرين، شهدنا تراجعا ملحوظا في حماسة أولئك الذين عارضوا الحرب ضد العراق. وتواصل المحطات التليفزيونية المرة تلو الأخرى بث صور القوات البريطانية أو الأمريكية وهي تسقط تماثيل صدام، بينما يرقص العراقيون حولهم. يقال لنا بأن ما اقترفته القوات الانجلوأمريكية قد تم تجاوزه، وأن هذه الصور تمثل الواقع الحقيقي في العراق الآن. كيف يمكن لنا أن نفهم صور الفرحة هذه في العراق؟ هل جرى حقيقة «تحرير» الناس في العراق بواسطة الأمريكيين؟ هل كنا في الواقع على خطأ في معارضتنا لهذه الحرب؟ قبل أن نستوعب أي من التحقيقات الصحفية للحكمة وراء الحرب ضد العراق، يتعين علينا أن نتذكر أن هذه التحقيقات مصدرها صحفيون «مرافقون» أو «ملحقون» بالجيش، وأن أحداثا من نحو إسقاط تماثيل صدام وتغطيتها بأعلام عراقية هي أمور جرى الترتيب لها مسبقا، وأن المئات القليلة من الأشخاص الذين يرقصون حول تمثال صدام ربما يحتفلون بسقوط طاغية ولكن ليس بالغزو، وأن العشرات القليلة من الناس الذين يلوحون للجنود الأمريكيين لا يشكلون أغلبية بين 25 مليون عراقي، وأن إعداد التقاريرالخبرية اتسم بالتحيز إلى حد كبير - يعتبر المثال الأوضح طرد صحفي لامع من قبل محطة «إن. بي. سي.» التلفزيونية لكتابته تقارير «غير وطنية»، وأننا جرى حرماننا من أي مصدر آخر للأخبار. ولا يجب ان نغفل قصف مقري محطة تلفزيون الجزيرة وأبوظبي في بغداد بعد قيامهما مرتين على الأقل بإخطار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بموقعهما وبعد تطمينات من الجيش الأمريكي للمحطتين. إن المقال المتميز الذي نشره سيمور هيرش في صحيفة «نيويوركر» يلخص كيف تورطت أرفع المستويات في الحكومتين الأمريكية والبريطانية في تقديم ما سمي خداعا بالدليل القاطع على نوايا صدام الشريرة. إن فهمنا للأحداث التي تتم بعيدا يعتمد على الكيفية التي تروى بها هذه الأحداث لنا، وبمجرد قيامنا بوضع الصور التلفزيونية في سياقها التاريخي الصحيح، تنبثق صورة مختلفة، نقوم بتذكير أنفسنا بأنه قبل أشهر قليلة مضت، نقلت لنا مشاهد مشابهة للفرحة الأفغانية عند تحريرهم بواسطة الأمريكيين والبريطانيين من الطالبان لإخبارنا أن الحرب في أفغانستان قد انتهت، لكن اتضح بجلاء أن لا الحرب إنتهت، ولا السلام استمر. في الحقيقة، جرى اختلاق مظهر كاذب، ظل ينهار منذئذ. قرضاي عراقي إن تجربة شبيهة بتلك التي يجري تنفيذها في العراق سبق تنفيذها في أفغانستان، تم فرض قرضاي على البلاد كاختيار من قبل الشعب، سرعان ما اتضح أن حكومته لا تستطيع حتى أن تزعم امتلاكها للسلطة الكاملة على مدينة كابول، ناهيك على كامل أفغانستان، مع مرور الأيام، يصبح أكثر وضوحا أن الواقع في العراق مختلف عن الصور التي تنقلها شركات الإعلام الكبرى. إن عملية تحرير العراقOperation Iraqi Liberation (التي يرمز لها اختصارا بأحرف «أو. آي. إل» OIL والتي تعني أيضا كلمة (النفط) ليست إلا لمظهر كاذب كبير، يخفي وراءه الحرب الحقيقية ضد الشعب العراقي. فالاعتداء المريع على حياتهم بالقنابل العنقودية سيتضاءل في الأهمية مقارنة مع الحرمان الذي هو في انتظارهم من خلال خصخصة ليس مواردهم النفطية وحسب بل والخدمات الصحية، المياه، الكهرباء، المواصلات، التعليم، الدواء والخدمة الهاتفية. تحت ذريعة الشركات الكبرى «لإعادة البناء» يتم بالفعل توقيع الصفقات لممارسة السيطرة على العراق. القنابل العنقودية في هذه الأثناء تطفو شركات الإعلام الكبرى بتصريحات حكماء من أمثال جيف هون، وزير الدفاع البريطاني. لقد أكد هون أن الأمهات العراقيات سيشكرن القنابل العنقودية في السنوات التالية! يزعم توني بلير مثله أن الخسائر في الأرواح أقل مما كان سيحدث تحت نظام صدام، دون أن يكشف لنا المعادلة المعقدة التي توصل من خلالها لهذه النتيجة. أخيراً، فسر جاك سترو نهب الكنوز الوطنية للعراق، والإمدادات الطبية من المستشفيات كتعبير من قبل الشعب العراقي عن الحرية الجديدة المولودة. التغطية الإعلامية ومن ثم لا عجب في أن هذه التغطية الإعلامية للعراقيين الذين يرحبون بالأمريكيين والبريطانيين كان لها إلى حد ما الأثر المرغوب من قبل بوش وبلير. إن كثيرين من الذين تظاهروا ضد الحرب في العراق يشعرون بهمم مثبطة، وقد كاد يصيبهم الخذلان بسبب موقف العراقيين. أكثر من ذلك، فإن صور العراقيين المهللين فرحا وفرت دعما لمبررات الهجوم العسكري، طالما لا يظهر شيء على صعيد أسلحة الدمار الشامل التي تم التحدث عنها بإسراف قبل الحرب. أولئك الذين لم يكونوا متيقنين في أمر الحرب أو كانوا معارضين لها جرى إقناعهم الآن بأنها ستعين العراقيين في بناء مستقبل أفضل بدون صدام، وفقا لاستطلاع للرأي قامت به «آي. سي. إم.» في الفترة مابين 11 و13 أبريل، ارتفعت نسبة التأييد للحرب في المملكة المتحدة من 38% في مارس، إلى 62% في أبريل. هذه الصور للعراقيين المبتهجين، والحيل الميكيافيلية الأخرى قامت بدورها بإنقاذ حكومة بلير، في الوقت الذي وضعت فيه فرنسا وألمانيا في موقف لا يحسدان عليه، فوق كل هذا، بدلا من فرض عقوبات على التحالف بسبب الحرب، التي وصفها كوفي عنان بوضوح بكونها عملا من أعمال العدوان، تعد الأممالمتحدة نفسها مرة أخرى لكي تقوم بأعمال الخدمة لفائدة الحكومة الأمريكية. تثبيط الهمم بدلا من تثبيط هممهم بواسطة هذا السيرك الإعلامي، يتعين على كل أولئك الذين عارضوا الحرب أن ينتهزوا هذه المناسبة لإدراك حجم التقدم الذي أحرزته الحركة المناهضة للحرب في نضالهم ضد الإمبريالية العالمية. إنهم فضحوا الطبيعة غيرالتمثيلية لما تسمى بالديمقراطيات الغربية، والصراع بين مصالح الشركات ومصالح الشعوب، وأنشأوا وعيا حول أجندة العولمة التي تنشد الحروب لتغذية الاقتصاديات، وجمعوا في صف واحد المجموعات المتباينة التي تتراوح بين الأصوليين والنقابات على امتداد العالم لكي تتحد في نضالها ضد عدو مشترك. في كل يوم من هذه الأيام، نسمع عن احتجاجات في مدن العراق وعن ردود الفعل الوحشية للجنود الأمريكيين تجاه تلك الاحتجاجات. نسمع عن ما يطلق عليه جيوب المقاومة. نشاهد أنه في الوقت الذي وضعت فيه الإدارة الأمريكية أعدادا كبيرة من الجنود لحماية مكاتب وزارة البترول في بغداد، لم يتوفر أي جنود لحماية وزارة التعليم، الداخلية أو الزراعة. لم يتم إدخار أي جنود لحماية المستشفيات التي نهبت إمداداتها الحيوية فيما يموت المرضى والمصابون. في النهاية، تنبثق الأخبار من العراق رغم المحاولات في الإعلام للتعتيم والمعالجة لتؤجج المشاعر المعادية لأمريكا المتصاعدة أصلا في العالم، وبصفة خاصة في العالم الإسلامي. تحتاج الحركة المناهضة للحرب لاستغلال قوة هذه المعلومات وهي سوف تجد العون في هذا الصدد في حقيقة أن الحركة قامت بحشد الناس في نقاش أوسع بكثير حول أصول السياسة الدولية والمحلية.لقد أخطات حكومتا بوش/بلير في تقديرهما للناس والتقليل من فطنتهم، وقدرتهم على الاستبصار من خلال صور الاحتفال في شوارع العراق. في الثاني عشر من أبريل كانت هناك تظاهرات من جديد حول العالم، في الولاياتالمتحدة كانت هناك تظاهرة لعدة آلاف من الناس في واشنطن يطالبون بعودة الجنود للوطن، أيضا في الولاياتالمتحدة قرر أكثر من 10000 شخص الامتناع عن دفع الضرائب التي ستذهب لدعم الحرب. وقد جمعت تظاهرة لندن، التي قمت بالمشاركة فيها، نحو 200000شخص، وركز العديد من المتحدثين في «هايد بارك» حيث انتهت التظاهرة، على تناقض أمة ترحب بقتلاها. إن وجود 200000 من المحتجين في لندن في أبريل مقابل 2 مليون في فبراير لهو دليل ضعيف على انفراط عقد الحركة المناهضة للحرب ومؤشر أكبر على اتساع التأييد لها في مواجهة سيل لا يهدأ من الأكاذيب من خلال وسائل الإعلام الكبرى. «دوون» الباكستانية /حوميرا إقتدار