كتبت هنا في يوم الأحد، السادس والعشرين من شهر يناير الفارط، مقالة تناولت فيها، قضية «التهميش الوظيفي»، الذي تعرض له في بلدية الطائف، أكثر من عشرين مهندساً سعودياً جامعياً..! وكنت أظن وبعض الظن إثم أن هذه حالة خاصة، وقعت في واحدة من أقدم وأشهر وأكبر بلديات مملكتنا الحبيبة، حيث دولتنا السنية، تقدر كافة مواطنيها، وتحترم كل موظفيها وتحميهم، بل وتفخر بكل مواطن مبدع مؤهل كفؤ، يخدم وطنه ومواطنيه بحب وإخلاص .. كنت أظن، أن لا أحد غير هؤلاء «العشرين» سيئي الحظ، من وقع عليه غضب إدارته، فهمشته وأقصته، وحكمت عليه بعَرَض «البطالة المقنعة» .. كنت كذلك .. حتى نُشر المقال آنف الذكر، فاستقبلت بعد ذلك، هواتف كثيرة، ورسائل إلكترونية أكثر، جميعها يشكو من مرض عضال اسمه «تهميش وتطفيش الكفاءات الوطنية»، ليس في قطاع البلديات وحده، وإنما في قطاعات كثيرة، منها الكبير ومنها الصغير، حتى احترت فيما أكتب بعد ذلك ..؟! هل أعرض لتجارب كل هؤلاء الناس جملة ..؟ أم تفصيلاً ..؟ أم آتي عليها جملة وتفصيلاً ..؟ أم آخذ منها ما يلخصها كلها ..؟ .. ثم إني اخترت من بين كل ذلك، تجربتين فقط، وحتى لا أوقع صاحبي هاتين التجربتين في حرج مع إدارتيهما، فيقع عليهما ما هو أكبر من بلاء «التهميش والتطفيش»، فإني اكتفي هنا، بذكر الحروف الأولى فقط من اسم كل منهما. .. يقول الأخ المهندس «س ب»: لقد سعدت بقراءة مقالك حول تهميش عددٍ من المهندسين الأكفاء في جهاز بلدية الطائف، ولكنك ذكرت أن هذا التهميش، لا يوجد إلا في هذا الجهاز، وهذا يا أخي الفاضل غير صحيح ..! التهميش ظاهرة لا تكاد تخلو منها إدارة حكومية، وذلك تحت غطاء «مستشار»، أو بحجة «لا أستطيع أن أعمل معك» ..! لأننا لا ننسجم معاً في العمل، أو من مثل: «مصلحة العمل تقتضي ذلك»..! .. أنا مهندس كهرباء، ولدي خبرة وخدمة حوالي «28» عاماً في الجهاز الذي أعمل فيه، وأحمل ماجستيراً في إدارة الأعمال والاقتصاد، وقد عملت لمدة تسع سنوات مديراً عاماً لمشاريع الجهاز، وعندما تبدلت وتغيرت القيادة العليا فيها، هُمِّشت تحت غطاء مستشار «MBA»، وأخبرني رئيسي، بأنه ينبغي لي، أن أبحث عن عمل في جهاز آخر ..! قال لي بكل وضوح: ليس لك مستقبل هنا..! فأنا يا أخي لعلمك، مهمش منذ عشر سنوات، رغم أن رئيسي يثني على إخلاصي وخبرتي أمام زملائي، ويعترف بأن سبب التهميش هذا، عائد إلى عدم قدرته على العمل معي .. تصور ..! لم يستطع حتى الوزير عمل شيء من أجلي.. .. ثم إني في هذا الجهاز، لست وحدي المهمّش. هناك كثر غيري، ومنهم من هم في مراتب عليا تصل إلى الخامسة عشرة، بعضهم ترك، وآخر مستمر ..!.. والخلاصة: أن هذه الظاهرة، تحتاج إلى عناية من الجهات المختصة، لأنها فعلاً تشكل إهداراً للطاقات والخبرات والكفاءات، وهدراً للمال العام .. فليتك تقترح علاجاً لهذه الظاهرة الخطيرة. .. وهذا الأخ «أ أ» يقول: قرأت ما كتبت عن تهميش الكفاءات في وزارة البلديات، وهي ظاهرة انتشرت أو بدأت تنتشر بين الموظفين في الدوائر الحكومية، وذلك في غياب الرقابة الإدارية الفاعلة، والجهة القضائية الرادعة، والأنظمة التي تحمي الموظف من استبداد رئيسه. وعلى سبيل المثال، فإن حالتي في مؤسسة حكومية، مشابهة إلى حد كبير للاخوة في جهاز البلديات، وقد حاولت مراراً، تفهم دواعي ما يمارس ضدي من «تهميش وتطفيش»، خاصة انه لم يتبق من عمري الوظيفي وقتها، سوى «19» عاماً، ولم أستطع مقابلة المسؤول عن عملية تنحيتي عن الوظيفة التي كنت أشغلها، إلا بعد عامين من الانتظار..! وعندما جلست إليه وتكلمت وشكوت وطلبت الإنصاف، لم يزد كلامه معي عن سوالف مجالس لا غير ..! ورغم أني كتبت لأكثر من جهة مختصة، منها وزارة الخدمة المدنية، وهيئة الرقابة والتحقيق، وبعد ذلك بعامين، لجأت إلى أعلى جهة قضائية، وهي ديوان المظالم، إلا أن كل ما حصلت عليه، من هذه الجهة الأخيرة هو: النطق بحكم بأني تأخرت كثيراً ..! أي أنه كان يجب عليّ أن أعترض على قرار النقل، خلال تسعة أشهر ..! ورغم تصريحي لهم بأني لست ضد قرار نقلي، ولكن اعتراضي هو على ما مورس ضدي من «تهميش وتمييز»، ثم «تجميدي» وظيفياً بعد ذلك، إلا أن الديوان، يصرُّ على أن شكواي هي من نقل تعسفي فقط ..! .. ومن غرائب الأمور، أن جهازي يعترف بأني موظف كفؤ..! ونقلي هو لتدوير هذه الكفاءة، أو بالأصح، «تدمير» هذه الكفاءة في شخصي..! فهل يُعقل، أن يُجمد موظف عشر سنوات وهو كفؤ ..؟! وأن يُحرم موظف من جهاز حاسب آلي لأنه كفؤ ..؟! وأن تحجب عنه مزايا مادية ومعنوية ووظيفية، يتمتع بها زملاء معه لأنه كفؤ..؟! أو يُحال بينه وبين حقوقه المدنية في التدريب، ومواصلة التعليم العالي، لمجرد أنه كفؤ ..؟!.. ثم يسرد هذا الأخ الموظف في جهاز كبير، شواهد على معاناته مع إدارته .. ويختم قائلاً: يقول لي بعضهم ساخراً: إذا كنت كفؤاً كما تعتقد، فلماذا لا تنتقل إلى جهاز آخر، وتحصل على نتاج كفاءتك ..؟! والجواب عندي في كل مرة: هل يوجد جهاز آخر يقبل بموظف مجمد «عشر سنوات»..؟! ومنقول «تعسفاً»، من وظيفة إشرافية، إلى أخرى غير قيادية ..؟! .. ما تقدم ، يمثل جوهر القضية التي تكلمت عنها سابقاً، في مقال السادس والعشرين من يناير، ويختزل تجارب لقراء أعزاء آخرين، من موظفين يعتقدون انهم من فئة المهمشين في أجهزتهم المختلفة، ويرى بعضهم، أن مثل هذه الظاهرة، ناتج عن مزاجية قيادية فردية، تتخذ مواقف سلبية من الآخرين العاملين معها، وهي لا صلة لها بالعمل المشترك في جهاز واحد، وفيها هدر للمال العام، وهدر للكفاءات العلمية، ومن خلال بروز هذه الظاهرة، يمكن لنا ببساطة، تفسير الضعف أو القصور في أداء هذا الجهاز أو ذاك، ومدى ما يعانيه من ارتجالية أو ارتباك.. .. إن ظاهرة «تهميش وتطفيش» الكفاءات الوظيفية الوطنية، من أشد الحالات المرضية عضالاً، لأنها تنبئ عن حالات نفسية غير سوية تقف وراءها. أما علاج هذه الحالة، فهو يبدأ من تلك الكفاءات التي تعتقد أنها متضررة ب«التهميش والتطفيش» في أجهزتها، وهي التي ينبغي ألا تسكت أبداً، بل تطالب بالإنصاف، فتلجأ إلى الجهات الرقابية والعدلية في الدولة، بما تملك من قضايا عادلة، تدعمها الحجج الدامغة... أنا واثق بأن الحقوق التي وراءها مطالبون لا تضيع، وأن القضايا العادلة، لا تنكس لها راية، حتى لو طالب بها المُدَد، أما الذين يكتفون بالجلوس وراء المكاتب الخشبية، وهم يتمنون على الله الأماني، في انتظار المجهول الذي ينصفهم، فعليهم أن يعلموا جيداً، أن هذا المجهول العادل..! لن يأتي أبداً .. واكتفي هنا، بطرح هذه القضية الشائكة، على أنظار المسؤولين في الدولة، الذين يملكون حق المساءلة والبحث والمعالجة، فإذا هم وجدوا من يتعاون معهم من المتضررين، بصدق وتجرد وشجاعة، فمن المؤكد، أننا سوف نرى بعد ذلك من النتائج الجيدة، ما يستحق الذكر والشكر معاً. [email protected]