علي أحمد النعمي مائتا صفحة من القطع المتوسط العشق للوطن.. ومن أجل الوطن انشودة تبل الصدى.. وتقتل الظمأ حتى كان لها وهج الشمس.. وهياج الشوق.. وشحنة الإيمان.. وجرح الوطن أي وطن يمد جرحه.. ونزيف دمه مخترق الحدود.. والسدود.. لأنه جرح جسد واحد.. ومعاناة أمة.. ومصير مستقبل.. وما تعرض له الكويت الشقيق من شقيق هدد مصيره.. واربك مسيرته لم يكن شيئاً يمكن تجاوزه دون أثر.. ودون خبر.. ودون قصيدة أو ملحمة تستصرخ الضمير.. وتسترجع المأساة من خلال رصد أمين للتذكير والذكرى كي لا تتكرر.. وشاعرنا الصديق علي النعمي امتشق سيف شاعريته فارساً جسوراً.. وخاض معركة الشعر قديرا ليقدم لنا «كويت الملحمة» مستعرضاً فصول ما جرى.. لا عن فضول.. وإنما عن يقين انتمائي إيماني بأن الحق احق ان يتبع.. هكذا وبعقيدته لا بعقدته الشعورية أملى خطابه الشعري فاتحا قلبه.. وعينيه للؤلؤة الخليج، الكويت بعد أن استردت حريتها وعافيتها.. انه يخاطبها كما لو كان يخاطب وطنه الأول لا فرق فبلاد العرب اوطانه.. وانسانها انسانه.. وأحزانها أحزانه.. كويت ما زلتِ فينا حرة الهام ولم يزل ذكرك الغالي هو السامي يأبى الوفاء ويأبى الاوفياء وقد أتتهم النار من خلف وقدام تأبى الكرامة يأبى الحب ان تقفي مذعورة ان تعاني غدر صدام يأبى الخليج الذي مازلتِ لؤلؤة على شواطيه من هدم وهدام انه يأبى الكثير لان الإباء متجذر لديه في الأعماق عقيدة وسلوكاً وممارسة انطلاقاً من رسالة السماء التي تأبى الظلم، وترفض العدوان حتى بين الشقيق والشقيق.. المروءة تأبى.. والمواثيق تحظر.. والشهامة تنصر.. وذاكرة الوعي ابدا لا تنسى ان تقول للمحسن أحسنت وللمسيء اسأت: «كويت ان الزعامات التي وقفت مع الغزاة تناست كل إكرام تنكرت للأيادي البيض وانجرفت في حمأة السوء يا للعار والذام!» «مفردة الذام» غير مفهومة لدي.. حسنا لو جاءت على النحو التالي «ياللموقف القامي» ويسترسل: موجهاً خطابه الى صدام: «اشعلت حربا، فماذا عن نهايتها؟ وما الذي حققته رمية الرامي» نيابة عن ضميره لو نطق اقول حقق الآتي: فتح بوابة شر كانت مغلقة أمام اطماع المتربصين بنا.. انهك امتنا العربية سياسياً، واقتصادياً، قضى قضاء مبرماً على جبهتنا الشرقية القوية.. اجهز على قوة العراق التي كانت درعاً واقياً لأمتنا يحسب لها ألف حساب وحساب.. مزق صفنا العربي واضعف قدرته على مواجهة العدوان الخارجي، ناهيك عما الحقه من خسائر مادية وبشرية طالت الكويت، ودول الخليج.. والعراق نفسه الذي مازال يرزح تحت وطأة وثقل الحصار الخانق المضروب عليه.. بل انه اتاح لأعداء امتنا فرصة العمر للإجهاز على ما تبقى .. كل هذا حققته رمية الرامي الطائشة المتخمة بالطيش والبطش.. «ماذا عن الشط، شط العرب كيف بدا بنصف وجه فأين النصف يا الحامي». اخشى ان لا يتوفر حتى النصف.. عراق ما قبل صدام لم يعد العراق الموحد بأجناسه وناسه.. ان خيوط المؤامرة تنسج لوحة ثلاثية الاضلاع لا صلة لأحد اضلاعها بالآخر توطئة للتقسيم او التقزيم.. او الفوضى.. ويتطلع شاعرنا الى شعب العراق وقد أكمّ به الوجع: «لا يقبل الضيم احرار وفي يدهم سيف الرشيد وفيهم كل مقدام.. بغداد حتى جياد الشعر غاضبة من ركضها في متاهات واوهام ومن اثارة نقع، واقتحام وغى ومن صهيل وإحجام وإقدام داست على المربد الشاكي اعنتها كالعيس ترزم فيه أيُّ إرزام» وتحت لافتته الثانية.. في القلوب يسكن الوطن لنا وقفة: «وطن في الدما يظل المسافر في الشرايين في الحشا في المحاجر وطن في القلوب يرحل عشقا في رؤى ثائر ونفحة شاعر بحروف تفيض صدقا وحبا ولحون تنساب دفق مشاعر..». نعم يا صديقي الشاعر انه لكذلك وأكثر.. انه كل شيء في كل شيء هل رأيت أكبر وأكثر من هذا ساحة ومساحة؟ انك لن تجد. في «الاسبوع الينبوع المفجوع» بثلاثيته يقول: «دعيتُ الى الحديث فهل تراني احقق رغبة، واسد ثغرا؟! لقد جمد الكلام على لساني وحيره الاسى كسرا، وجبرا فهل سيخف، والأحزان شتى؟! وهل سيرف والارزاء تترى! وفي بغداد مسحوق، وعاق وفي بغداد من يفنى، ويعرى». ان سحابة الاحزان تظللنا جميعا حتى تعود لأرض الرافدين عافيتها، ولشعبها حريته وسلامته.. ولوحدتها ثباتها وتماسكها.. ولنخلها الباسق رطبه وجنيه «يا نخيل العراق تمر العراق صار مرا، وما له من مذاق افسدته غربان سوء وسدت عنه باب الحضور في الأسواق وتطاول رغم الرياح العواتي وتسلق رغم اشتداد الخناق». لا ذنب لنخل العراق يا صديقي انه شامخ عملاق يهب رطبا جنياً.. ليكن غذاء لشعب محاصر.. انه حلو في فم الجياع حتى ولو صار مرا في مذاق الآخرين.. النخل يكفيه شموخه واباؤه.. انه حين يموت ان قدر له الموت واقفا.. ليتنا كالنخل في مواجهة الانواء.. وفي مجابهة العواصف والأعاصير. ولا يمل النعمي من وقوفه الشعري أمام نخيل دجلة والفرات وهو يرقبها بعين حزن وهو يتذكر كيف رآها آخر مرة: «يا نخيل العراق، مرت سراعا سنوات على اللقا في العراق كم حملنا فيها الوفا واحتفلنا بسناها لدى جميع الرفاق وجعلنا للنخل في كل قلب نزلا، سامقاً عصي المراق وحرثنا له الضلوع حقولا وفجرنا من الدماء السواقي» ذكريات حب متجددة لا تفارق باله يتمنى ان تعود.. ولسوف تعود فالعراق باق، ونخل العراق باق، وشعب العراق باق.. الذين يذهبون هم الذين لا يحسنون فهم حياتهم ومسؤولياتهم، ولا يقيمون لحساباتهم وزنا.. بيت من قصيدته «نخيل العراق» على لسان نخلة شدني لشمولية معانيه وتناسقها: «تمتمت خلسة، ولاحت فباحت ثم صاحت: يا من يحل وثاقي». وانه لمحلول بإذن الله.. الليل الدامس دائماً ايذان ببزوغ الفجر.. في قصيدته «يراع الفرسان» أبيات جميلة تستحق من يقرؤها: «يا بلادي هذا أنا ويراعي فارسا جلت بكل لسان! باسم هذي الوجوه اشعلت حرفي ولهذا الثرى نذرت لساني والثرى، والوجوه جزء يسير من كيان موطن البنيان ساد بالقادة الكرام، وأعلى راية الحق عبر كل زمان..». كان يتحدث عن الوطن بروح المواطن المنتمي لترابه، وتراثه، وتاريخه ويتحدث عن الأعياد كما يعدّها: لم تعد عيدين أو ثلاثة بل أكثر.. عيد الفطر، عيد الأضحى.. اليوم الوطني لتوحيد الوطن.. لقد اضاف اليها عيدا رابعا يوم ان تحررت الكويت من الاحتلال الغاشم وعاد اليها أهلها يُقبلون ترابها في شوق، وعشق.. «طلع الصباح على الكويت فهللت لقدومه، واستبشرت بلقائه» الصباح هنا يشير الى أمير الكويت.. وهو صباح يتساوى في دلالاته مع الصباح الذي يعقب الظلام ويفجر خيوط النور تحريراً من عتمة الليل وسواده.. وبقيت «كويت الملحمة» القصيدة التي اتخذ منها عنوانا لديوانه: لعل الأضعف من بين اشعاره تركيبة.. والأخف وزناً.. هكذا رأيت.. وقد اكون تجاوزت الحقيقة بهذا الحكم.. ان كان كذلك فمعذرة يا صديقي النعمي.. اعترف انها الأطول من بين قصائده فقد استغرقت من الصفحات المائة هذا من حيث الكم.. اما الكيف فمسألة فيها نظر.. اختار لها سرداً يحاكي ألف ليلة وليلة «كان يا ما كان» استرجع فيها ما جاء في قصائده الأولى. أعمل فيها عملية تقطيع الأوصال الى حد الانفصال الصياغي.. وتقريره.. «وكان يا ما كان في زمن الفصام والجنون والضحك الحزبي. والبعثي عُنوة على الذقون والداء يفقأ العيون دون رحمة والجوع يحرق البطون في زمن الخداع، والادهان والجوقة والقيان عام وبعض عام يا زمان» ما هكذا يا صديقي يمزق الشعر، وتبعثر أوصاله لمجرد ملء الصفحات، اعط له التماسك كيف يقتنع به أناسك.. على هذا النسق تأتي ملحمته كما اسماها مسترسلة تنفض عنها غبار حرب الكويت وعار احتلالها.. لقطة أخرى لعدسة آلته الشعرية.. في تقريرية ومباشرة ارجو ان يتجنبها في الآتي حفاظا على جمالية فكره وسلاسته: «وفزعت من صخب الأموات واللغات دون ان تعي ومن ضجيج الماء والتراب بالشارات، والفئات والتجمع فجاءها النداء بالصوت والصدى يصك كل مسمع وجاءها الندا مصطخبا مزمجرا لا تفزعي فليس ها هنا حقود ولم يعد لأي فاجر وجود والصقر في العلياء لا يخشى نقيق ضفدع وصاحب النعمة يا كويت مبتلى بنقمة الجاحد والحسود..» إذا كان هذا شعراً فأين النثر يا صديقي.. تمسك بأصالة قلمك، وتملك ناصية شعرك ما قبل الملحمة.. ودع الملاحم لمن تروق له.. انها لا تروق لك على هذا النحو.. أكبر فيك صدقك وروحك الشاعرة. (*) الرياض - ص.ب 231185 الرمز 11321