* محمد العيد الخطراوي 174 صفحة من القطع المتوسط جميل أن يختار شاعرنا الخطراوي عنوانه لديوانيه..فما أحوجنا إلى الأمل في عالم مسكون بالألم والدم والمعاناة.. الأمل حلم.. والعمل جادة موصلة إليه.. وبينهما برزخ تحدده الإرادة.. وترسم حدوده القدرة على الحركة.. إلى أي مدى من الابحار سوف يأخذ شاعرنا إلى الشاطئ بعيداً عن الغرق.. والاستغراق في متاهات الرحلة؟! هذا ما سنتعرف عليه مع أول خطوة للابحار.. «قبل الرحيل» يفاجئنا بروح من التمرد.. والتجرد من قيد المساومة والمهادنة.. إنها بشرة خير: «تحررت منك.. اخترقت الحصارا بصقت على قيدك الذهبي المزيف» جميل فعلتَ.. فالقيد لا يشفع له أن يكون ذهباً ولا حتى ألماساً لأنه قيد يشد الوثاق ويلوي عنق الأنطلاق.. «مزقت أقنعة الأمس همشت كل الجسور إليك» بهذا الاصرار تحدد مسار المسير إلى ما هو أكثر صدامية وتحدياً.. انه نزع الأقنعة المزيقة عن الوجوه التي لا تقوى على مواجهة الشمس.. «سقط القناع.. فبدوت أبشع ما يكون وجه كوجه الحيزبون ونذالة فوق الظنون لم يأمل الشيطان يوماً أن تكون» لكأنما يرسم الصورة على وجه شارون وألف شارون يختبئ تحت عباءته المضرجة بالدم.. ما أروع أن ترسم الصورة ثم نختار لها من يناسبها مكاناً. وزماناً دون نحوه.. لندع شارون وشره جانباً ونمض مع شاعرنا في غضبة.. وفي قصة مع بطلة لا تستحق البطولة: «لا تملكين سوى الدموع والشوق يوماً للرجوع لا.. لست أحفل بالفتات وببؤرة العفن الموضيع» لماذا؟ لأنها لاهية متدنية الحس لا تقيم وزناً لكرامة النفس.. لقد تركها للذباب.. ومضى يطوي وجه التراب باحثاً عن العشب حيث كان يحلم: «عشبية الصوت.. صبي الصوت في أذني ملونا بحكايا.. الطل.. والزهر.. وضمري بالصدى العذري ما جرحت يد الليالي.. وما أوهته من فكر.. لا تصمتي وأحمليني بين أحرفه شوقاً.. تمثل ملء السمع والبصر». إلى أن يقول: «هجرت كل مواويلي التي شربت من غربتي.. وارتوت من أعين السهر» ويبدو أنها ظلت صامتة تعتمر الغربة.. بينما هو يعتمر المناجاة على أمل الابحار إليها ثانية: «وعدت نحو رصيف البحر أسأله عن القلاع.. وعن أيامها الغرر ورحت أحلم بالابحار ثانية وأكتب الشعر للمستقبل العطر». يبدو أن حلمه للإبحار إلى معشوقته تحول إلى ابحار في بحر الشعر الذي يعشقه واكتفى.. إلا أن الظمأ إليها مازال قائماً: «تتمددين بداخلي كقصيدة غزلية تغفو على الأوتار ولمسمعي من سحر همسك غنوة مسكونة بالحب والأسرار». آه من الحب حين يتحول إلى مجرد نجوى ومناجاة لا تروي الظمأ.. ولا تبل العطش.. هكذا شاعرنا في حنينه وشجونه كتلة من الشكوى.. والانتظار.. والانكسار أمام جبروت الحب.. ولأنه غارق في هواها حتى هامة رأسه لا شيء يراه بعدها: «ترددت.. واريت شوقي إليك وبُعدي عنك.. تصبرت.. ضاع التصبر.. مات الجلد» لماذا؟! وأين تلكم الغضبة والأنفة مع أولى خطواتك؟! ألأنها امرأة؟ ربما لأنها تملك سحر الجاذبية التي خر أمامها هتلر بجبروته.. وموسوليني بفاشيته.. وكبار كبار تحولوا إلى صغار صغار يرتعشون أمام فتنتها وسحرها الذي لا يقاوم.. ماذا بعد أن فتشت عنها كل الدروب؟ وراجعت أوراقك الخضلات بحبك؟ وبعد أن لذت بشعرك؟ وبعد أن أرهقك الركض خلف ظلالك؟ وبعد كل الأحاسيس الملتهبة نحوها؟ يبدو أن نجومك اختفت، وينابيعك جفت.. وماتت الزهور دون ماء.. وبقي الحب اللاهب دون جفاف.. ودون أن ينطفئ.. هكذا دائماً غرام الشعراء انه لا ينتهي إلا بعناء.. وجفوة.. ومحطات انتظار لما سيأتي.. هذا ما أفصحت عنه قصيدتك «الحلم والافصاح».. «مازلت أفتش عن لغة كحقول لم تسكن لم تطمث بعد مجاهلها وسفوح غدائرها سوس تستوعب عمق مغامرتي وبنبض معاني تشحن».. هل وجدتها؟! وأين؟ كثيرون غيرك بحثوا عنها وفشلوا.. وظلوا يندبون حظوظهم كما أنت.. حتى مع عناكب الظلام لم تسلم حبيبتك من الملام.. انك تخاطبها كما لو كانت شبحا يتراقص أمام مدفئة! .. تصوري من أين يدخل الظلام يدخل من نافذتي من ثقبة المفتاح من السقوف.. والرفوف.. والشقوق.. ليطفئ المصباح». الظلام يا صديقي يسكن أعماق وحدتك.. انه يغزوك من الداخل.. ولن يقدر أي مصباح أو صباح أن يوقظ لديك روح السكينة دون أن يهدأ قلبك.. خذها مني تجربة شاعر.. لندع الحرفين الظالمين لظلمهما.. فالعاجز من لا يظلم حتى في سياسة الحروف.. وسياسة الخروف لا فرق.. المهم أن نتعرف على حكاية الرتوش الموسومة على اللوحة.. «تقولين: اني نحت بقلبك تمثال حب كبير كبير واني ختمت عليه بكفي.. وأغلقت بابه» هذا ما تقوله هي.. فماذا قلت أنت؟! لقد شبعنا من أشعار الهيام والغرام فهل أنك صدقتها؟ عبر كل أبياتك الجميلة المعبرة لا شيء.. لا شيء.. إلا طيوف من ذكرى تتجدد نهايتها سراب.. سوف تجيبني محتجاً في كلمات تحمل هذا المعنى: «وأطلقت كل المواويل في داخلي.. ملأت شفاهي غناء وأشعلت فيها الأماني فهبت نشاوى.. تصفق للحلم تنسج منه صباح الغد».. وماذا بعد؟ في النهاية أقدمت على نصب المشانق لمحاكمة كل المحبين.. وشطبت حرفي كلمة «حب» من كل المعاجم رغم أنك مازلت تغني لها رغم ما لحق بك من جراح.. لقد ودعتها وأنت تصرخ بملء فمك: «وأني أحبك حتى الجنون».. مرة أخرى ماذا يجدي جنون الحب إذا كان الحب من طرف واحد.. أو من خلف أسوار قلعة حصار؟! ولأن حكايا الليل أكثر من الهم على القلب يأبى شاعرنا إلا أن يستضيفه في ندوة يحاكيه ويحكي معه: «كلما أوغلت في الدرب تناءى الضوء عني وطواني الليل في بحر من الأشجان مضن ويدي تمتد للاشيء في يأس مفن» أنه يشتكي.. ويبث الليل همومه وهواجسه التي طالما أقضت مضجعه وأسلمت عينيه للسهاد.. «استمرت رحلة الأحزان تسري في دمائي تسلم الجرح إلى الجرح.. وتمضي في احتوائي وأنا ألهث خلف الحمل مبحوح النداء.. واداري سورة الجرح ببعض الكبرياء».. هكذا تبدو الرجولة.. ويتحرك الاباء حفاظاً على الكبرياء.. المهم ألا يتبخر الصبر.. وتنهزم الكبرياء أمام سطوة الفتنة التي تعشق الفتنة ثم تغيب. لعل كبرياء شاعرنا المبدع الخطراوي سوف تقف هذه المرة في وجه الخوف ولو من باب التمني: «أتمنى لو تحررت من الخوف. لأغفو في ثياب الأمن.. في فيء ظلالك.. لأخط الكلمة الأولى بأوراقي وأخطو الخطوة الأولى بدربي» أين تلك الخطوات السابقة؟! ولماذا التمني يا صديقي.. أليس مظهر عجز؟ الخوف لا يقتله إلا الخوف من الخوف.. جرب ولو مرة واحدة.. «آه.. من شقوة أيامي ومن طول عتابك. يا لقلبي يملأ الخوف حواشيه.. ويبكي لغيابك.. لا تغادرني حبيبي.. ان قلبي عند بابك.. أغلق بابك أنت.. حينها لن تغادر هي.. وسيأتي قلبها طيعاً طائعاً عند بابك.. هكذا علمتنا التجربة.. الصدود أحياناً يفتح بوابة الحدود.. ما برحت الرحلة قائمة.. هذه المرة رحلة مع قصيدة يقول مطلعها: «سلمت يا حبيبتي وبعد: هذه قصيدتي المغامرة تبحر مثل زورق إلى الموانئ المسافرة» تسأل عن عنوان قلبك الصغير.. تبلغه ما استوعبت من عشقي الكبير» كل هذا الابحار.. وقلبها صغير لا يتسع حتى لمجرد عنوان.. ولكن ما علينا.. لننتظر.. كانت أبياته أدبيات عشق تنوب عنه.. ترسم الأبيات على الجدران البيضاء وتستحم في البيادر.. وتغرس السنابل في مراتع النجوم وباقات ورد.. كل هذا ينتهي عند رغبة متواضعة أن تقبل الأوراق وأن تحدثها عن بساط النور.. عن العشق عن الحب.. أن تحكي لها الكثير والكثير.. وأن تترفق بها لأنها هو بقلبه الأسير.. رخيصة.. والطلب غال.. هل هذا يكفي؟! لندع الكلمة المسنونة حتى لا تقرصنا.. ونلجأ الى ما بعدها.. الى مرارة العجز «أواه يا قلب ان العجز يخنقني ويخنق الفرحة الكبرى بأيامي يخوض في كل يوم ألف معركة أعود منها جميعاً خافض الهام» كل يوم ياصديقي ألف معركة ومع هذا تتهم نفسك بالعجز.. العجز عجز على الارادة وشلل للحركة وأنت أكثر من عنترة بن شداد مغامرة ومواجهة.. أن تعود خافض الهام فهذه نكبة أو نكسة في تاريخنا الحديث الكثير منها.. فلا غرابة.. «خازن القمر».. الارتجال في عيون الزمن.. عودي إليّ» «أنت الشعر».. «سلطانة العاشقين» مقطوعات شعرية عذبة المذاق تأخذ نفس الاتجاه.. ونفس الزخم الشعوري الابداعي.. ومع الابحار والشجن لنا وقفة: «وكنت أقسمت لن أبكي وأنتِ معي ومنذ أبحرت صار الدمع لي وطنا» وأجهشت في الرؤى ما جئت مرتبعاً منوراً حولها إلا غدا أسنا» لماذا القسم؟ ولماذا حنثت به؟ ملكت ارادة القسم وهو السهل.. وخانتك ارادة الوفاء به وهي الأصعب. وتلك اشكالية الذين يضعفون أمام مواقف لا يقدرون على مواجهتها.. لست وحدك.. نطوي الصفحة تلو الصفحة فموعد الاقتراب من مرافئ الأمل ليس بالبعيد.. يحدونا الأمل أن تطأ أقدامنا أرض اليابسة كي نتصفح في أمان هوامش مسافرة: «وفي الليل حين يسود السكون وتمتهن الكائنات السكوت مجردة من ارادتها وتمط الثواني خطاها لتصبح دهراً به... أسافر أبحث عنك». يبدو أن شاعرنا لا يريد لقاربنا أن يصل.. انه مغرم بالسفر.. بحثا عنها.. بل أكثر وأخطر من هذه سوف يرسل في اثرها المخبرين أو شرطة المرور! ومراكز الجوازات عند جميع المخارج لإيقافها والقبض عليها وربما شحنها إلى سجن جوانتانامو بتهمة ارهاب التهرب.. المشكلة أنه أيضاً ضائع في عيونها يلزم البحث عنه.. أنه يريدها واحة يأوي إليها من غدر الأيام التي تزآر في دروبه.. هكذا ارادها: «وتطويني، وتنشرني يداها بكل شراسة الخصم الغضوب لعل ظلالك الخضراء تأسو جراحاتي.. وتطفئ من لهيبي» لعل.. وعسى.. هذا ما نتمناه لشاعرنا كي يكمل رحلته في سلام.. وليس في استلام على قاعدة السلام الإسرائيلي.. ويبدو أن شاعرنا اختار لشعره أن يصلب على باب ذهبي.. أو خشبي.. لا فرق.. فالجثة هي الجثة.. والنهاية هي النهاية.. «على باب جثتك الذهبي صُلبت وماتت أناشيدي الحالمة تهاوت على قدميك وراحت هباء تساقطت الأحرف الظامئة». إلى أن يقول في ختام قصيدته وختام ديوانه الممتع المشبع بروح الشاعر والمشاعر.. «اتدرين ما فعل القحط بالحي يا سيدتي وما خلفته يداك على الخارطه بهامش دفترك المتمزق أنثر بين يديك دليل انتمائي إليك». وأنا بدوري أنثر كلماتي دليل اعتزاز بشعر صديق تملك ناصيته النثر بنفس القدر الذي نملك به ناصية الشعر.. المزيد المزيد من العطاء الذي لا تحني فيه هامة.. ولا تخدش كبرياء.. حتى في الصورة الشعرية.. وإذا كان أجمل الشعر أكذبه.. فإن أعذبه ما حمل معنى التحدي.. دون التعدي.. المهم أن يظل واقفاً لا يشعر غيره بالهزيمة ولو على مستوى الحب..