سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نافذة على الإبداع د. حسين المناصرة في «خندق المصير»:
أدب الانتفاضة.. سرد لمعجزة المقاومة الشامخة
* د.المناصرة يصنف شخوص روايته ليوزع عليهم الأدوار بعدل * بين الموت والجنون تروى النهايات الفادحة والمؤلمة
يطل الروائي والناقد الدكتور حسين المناصرة على القارئ بعمل روائي يصب في نهر أدب الانتفاضة الفلسطينية والتي تأثرت فيها العديد من الطروحات الأدبية لاسيما تجربتي الشعر والسرد.. الدكتور المناصرة وبما انه من أبناء هذه الانتفاضة وأهلها فقد جسد أهم المنطلقات التي ارتكزت عليها رؤية الإنسان المقاوم في الفترتين الأولى والثانية من زمن هذا التحول في رفض الاحتلال ومقاومة الظلم، ورفض الذل.. عنوان رواية المناصرة جاء على هيئة فاتحة لخطاب الصمود.. (خندق المصير).. فهو رسالة تذيع هم الشخوص وترصد العناء اليومي الذي يتعرض له أبسط البسطاء من أمثال «رابعة» المجنونة وآخرين أصابهم هذا الأمر لفرط مكابدة يعانونها حيث رصدهم في منتصف (الصفحة 15) وبداية (الصفحة16) من هؤلاء الموسمين بالجنون.. (أم سالم)، (المعلم راشد)، (الشيخ عيسى)، (المختار تركي)، (بنت عابد)، (محمد حسن)، (الصحفي ابوعبده) وآخرين جسدوا حقيقة الألم في تلك البقعة القصية والتي تعيث فيها يد الجلاد ضرباً وحرقاً وذلاً وإهانة. إلا ان الكاتب استطاع ان يفرد لرابعة حيزاً استثنائياً جعله شاهداً منذ البداية على مايروم استحضاره في حالة هذا الجنون الذي يبدو للقارئ أنه وليد ظروف معينة وتحت تأثير حالة ألم نفسي خانق يؤذي حتى أنه -وللوهلة الأولى- شرع في تعريفات للجنون، وأسئلة حول كنه هذه الحالة التي أصيب بها نفر غير قليل من أبناء هذه البلاد المنهكة.. بل انه أخذ بسرد العديد من القصص المنفصلة رغبة منه - فيما يبدو -0 اثراء هذا الموضوع الذي يحتاج منا إلى كثير من حسن الاستماع والانصات لأن الأمر في غاية الأهمية.. فقد يأتي الزمن ويصبح الجميع في حالة جنون تام.. فكيف بنا ان نتدبر أمر المكيدة، ونستوعب درس المؤامرة على انسانيتنا، ووجودنا على هذه الأرض التي يزعمون أنها ليست لنا.. بل انها جزء من تاريخ الآخر.. ذلك الذي يأتي من المنافي ليصبح ابن هذه الأرض هنا. * لغة السرد.. فيض الحكاية.. يؤكد الدكتور المناصرة على أن الرواية حول حالة الجنون تحتاج إلى آلاف الصفحات التي قد تشق على القارئ.. إنما نراه يوجز ويلمح ويقتضب بل انه يركن إلى الكتابة خارج نسق السرد حينما نراه يلمح إلى بعض الأحداث دون ان يدخلها في السياق بل انه يتحدث بتجرد (الناقد) لنرى أن يقدم شرحاً للحالة من منطلق الراوي المنظر على الأحداث والقصص .. تلك التي يرى ان بعضها مناسب، فيما قد يكون البعض الآخر غير ذي بال.. فمن هنا تصبح لغة السرد فيض حكايات يستطيع القارئ ان يأخذ منها ما تيسر من هذه الأطراف التي تصف حالة هذا (النعيم) الذي يعيشه أهل الجنون ويحسدهم أهل العقل. ويتحول الراوي لهذه الأحداث والقصص والحكايات من مشهد إلى آخر حيث يصور لنا بعض تلك التداخلات الحياتية اليومية مع من حوله ليظل العدو المستوطن هو القاسم المشترك الأكبر في بناء هذا الكم الهائل من الحكايات المشبعة بالألم والقهر وضياع الأحلام الجميلة والوادعة. لا يقف المناصرة عند هذا الحد الذي يصور ألم الإنسان الفلسطيني إنما نراه ينتقي أشد المواقف ألماً، وأقواها تأثيراً من أجل أن يحيك لنا ذلك الرابط الحكائي الذي سيصوغ لنا الأحداث ويرتب لنا هذه المقولة الكبرى.. تلك التي تشم منها رغبة الكاتب في استجلاء حالتي الموت والجنون وربطهما في الحالة العامة للاحتلال الغاشم ذلك الذي يبيح حتى قتل المجانين من أجل ألا يرى في هذه الأرض أحداً.. المناصرة بين حانا ومانا.. في الرواية نزعة نحو تلمس عوالم القرية واستحضار صورة ذلك الألم القديم.. بين تلك المعطيات الإنسانية البريئة وبين هذا التحول الكبير في لغة العدو الذي يتربص بكل من في هذه البلاد.. ظل المناصرة في دوامة (حانا ومانا) وهي الاسطورة التي تحدث عنها الكاتب في بداية الرواية.. فهو يرى ان الجنون قديم في هذه البلاد -مسرح الأحداث- بل ان تاريخ المجانين يوثق هذه المسيرة يعد من القصص التي تتناول الحالة العامة.. لينقل لنا أطرافاً من هذا الكدر اليومي على لسان معجزتي الجنون (حانا ومانا) ففي (الصفحة55) يفيض الراوي على لسان (حانا) ببعض الصور الجنونية الخارقة تلك التي صنعت منه انساناً يستطيع الربط بين واقع الجنون وبين متطلبات الحياة الخادعة؛ لتسير الرواية على هذا النهج الاستدراكي لمثال أحلام الإنسان الذي يخير ويرغب، وتكال له المغريات من أجل ان ينساق بعيداً عن جوهر قضيته حتى ان القضية في هذا السياق تأخذ شكل الانبعاث الواعي لمفردة الجنون المركب بمثل حالة (حانا ومانا) في صلب قضية الانسان الفلسطيني حتى تنطبق أسطورة الجنون مع الواقع اليوم لتأخذ الحالة لدى الراوي جانباً حياتياً محيراً يضيع الهدى، ويفقد الانسان رغبته في التواصل مع ما حوله من كائنات. رواية «خندق المصير» للدكتور حسين المناصرة ظاهرة استنطاقية لمثال هذه الأحلام الإنسانية تحت الاحتلال بل انها رصد دقيق لما ستكون عليه اسطورة الكفاح ومعجزة الانتفاضة الشامخة.. تلك التي لم تنطفئ بعد.. فمن حكاية إلى أخرى ينسج لنا الراوي المتبحر في شؤون حياة البسطاء في تلك النجوع والقرى.. حيث برع (المناصرة) في اقتفاء حساسية هذا الخطاب الهام الذي يزاوج بين الموت كحالة والجنون كموقف يمكن ان يعبر عن لحظة الارتهان المؤذي لعقل الانسان الذي يفكر في سبيل الخلاص، وجلب السعادة.. بل وحتى العيش بأمان خارج هذه المتاهة المعاندة. روح الانسان تفيض ألماً وحيرة.. وتنبثق على هيئة صور منتظمة تحقق للحكاية مشروعها الفني اللافت فالرواية ورغم انها تذيع أسرار الحالة الخفية للحزن لم تخل من جماليات تهيل على الذات بعض الفأل والأمل بقرب الحل والخلاص من هذا الكابوس الذي تطاول حتى أصبح أقسى من المستحيل، وأصعب من اليأس.. إشارة: - خندق المصير (رواية). - د. حسين عبدالله المناصرة. - دار الفارابي - بيروت - لبنان 2001م. - لوحة الغلاف للفنان فارس غصوب.