ولستُ أدري، حينما انتعلني الحُزنُ، وانتفضَ القلبُ.. فزعاً وطار، أناخني البُعدُ وامتطى أدمُعي، وتساقطتْ نجومٌ وانكسرت على دُروبٍ ما بينَ النوم والصَّحْوِ. أأرقصُ مُختبرا قدرتي على الرقص؟ ولأني لا أملكُ أرضاً تحتي، أعتذرُ حتى عن الوقوفِ، لأنَّ ساقي من زُجاج. *** رُدُّوا عليَّ قميصَ بلدي، يدتدُّ إلىَّ بصري، أو بعضُ جسدي. كأنني أكلمُ نفسي..!! نسيتُ أنَّ الليل أصمُّ وأنا أعمى، سحبتُ جُثة صوتيَ وعدتُ إلى التابوتِ قبلَ أن.. يستيقظ الفجرُ ولا يراني تمثالا من الصمتِ على شكل الألمِ في قبعةِ وطن في فِراشهِ. عُدتُ في الحزن القادم، أطرقُ المحاولة وأستعيدُ تمثيلَ الموتِ مُتنكراً في لباس بشر، دون قلبٍ أو بصر.. أبحثُ عن فرشاةٍ، لأرسم ضوءاً أو دماً.. لكنَّ الأعمى لم يكن قد رأى ضوءاً أو كان قد رأى الدم، لم يجد فرشاة.. ولم يلمس الضوءَ.. أو يرى الدم.. فهل مِنْ كفيفٍ يدُلُّه على الضَّياع؟ حائرٌ... ... ولستُ الذي يدري.. كيفَ يرى الأعمى.. ومفتاحُ عينيهِ ضائِع؟ كيف ينامُ وإحساسُهُ مسحوبٌ في الشوارع؟ أم كيف يبكي ومع الفرشاة المفقودة صوتُهُ الجائع؟ ويعود نُباحُ الجراحِ الضالةِ على قرية عيني المُظلمة، ويسحبُ الليلُ كلَّ الطرق مِنْ تحتِ أرْجُلي. مازلتُ أبْحثُ عن الفرشاةِ، لأسدد بها دُيُون الأشواق التي استدنتها من جيوبِ الهوى. عندما أبحثُ أو أبدأ في البحثِ يُغادِرُ جسدي كل سُكانهِ، كل يجُرُّ عربة فيها قطعة من هذا البلد، لقد أخذوا كلَّ شيء، عُيوني وفمي، أرجُلي ويدي، ولم يبق سِوى أربعة جُدران على شكل منفى في داخِله كرسي إحساس مشلولٍ.. أسميتها قلبْ..، أمرُّ عليها، لا حفيفُ نُجوم ولا نفحُ صدى يترددُ، يضعُ جماجم من الذكرى ريشها على جوانب القهرِ، أثمرت تحتي، وتسلقت حلقي، وانزلقتْ بظل الدمعةِ، ولم تصهل جمرتي، وبقيَ دُخانها عالقا في حلق السماء يخنقُ الحُلم، فتجتمِعُ أنفاسي في طقوس ورقية.. وتقطع أحلامي وترمي بهم في النار، كانوا دولا من الهذيان تورمت على صدرها سرطان، وقطعتُ أنا رحمها حينما عقمتْ عن إنجاب لوحةٍ تنتثِرُ الأرضُ فيها حينما تركعُ فتاة نافظة حُلما علقَ في طرفِ نومها. من حيث لا أدري... لا بُدَّ أن أضعَ حداً لنزيف هذا العُمر، لابد أن أضعَ مِسماراً في رجلِهِ كي لا يمشي، أو أسُد فتحة عُنق زجاجته كي لا يسيلَ المزيدُ مِنه، فقد كثرتِ النوارسُ على شاطئ جُرح وتجمعتْ على رائحة ألم، وكنتُ قاربا قد وصل الآن إلى نهايةِ صرختهِ، وبينَ رُكبتي وطنهِ وضعَ رأسه، وموْجُ العربةِ يجرُه من قدميه، كلُّ الأسماك التي شاهدها في رحلتهِ كانت لوْحات، بعضها خائفٌ يهربُ منه، وبعضُها باردٌ يتجاهله، وبعضها وحشٌ كاسرٌ، لم يبق منه سوى كتف ولا رُكبتان.. كتفٌ يستريح عليها المنفى، ولا رُكبتان يخبئُ بينهما رأس غُربته، مازال يحتاجُ إلى كف فُرشاةٍ تمسحُ على رأسِهِ بحنان الألوان، وتجفف دُموعاً تسيلُ من شموعِ عينيه على حصير منْ دُعاءٍ يتيم.