بينما كنت في إحدى أروقة المستشفى منتظراً دوري إذ كان بجانبي رجل مصاب بكاحله لديه عكاز مسند على الجدار، فتحمدت الله على سلامته وسألته عن سبب إصابته فحدثني قائلاً: كنت أمارس رياضة المشي في أحد المضامير، وإذا برجل عُرف عنه حدة في عينه أعجب بمشيتي وحيويتي فأصابني بعين فتعثرت في الممشى وسقطت على الأرض فانكسرت رجلي، فسألته قائلاً: كيف عرفت أن الرجل رماك بعينه؟ فقال: نظر إليّ وقال: أنت كالحصان في مشيتك، وطفح عندي الفضول لأحاوره فقلت: أخشى أن تكون ظلمته ولم يكن هو السبب قال: ألا تعرف أن من يكثر الوصف ويدقق في التشبيه مادحاً معروف بالحسد وحدة العين؟. فقلت: نعم؛ هذه المعلومة يتم تداولها كثيراً ومنذ زمن، بعدها دعوت له بالشفاء ونادتني الممرضة إلى الطبيب وانصرفت. وحين امتطيت سيارتي وربطت حزامي مغادراً المستشفى بدأت أحداث قصته العابرة تجول في خاطري، وتذكرت من يحسن الوصف ويبدع في التشبيه من الشعراء في عصورنا الأدبية الماجدة، وبدا الشك يراودني في الضعف اللغوي الحاصل في اللغة العربية هل جاء بسبب وصف حافظ إبراهيم لها حين قال: وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءَلُوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي فأظن اللغة العربية معيونة من قوله!! بيد أن ما نسمعه من القصص أن العائن إذا مات صلحت حال المعيون واللغة العربية مازالت مجروحة! بعدها خطرت على بالي قصيدة البحتري حين أبدع بوصف بركة صنعها الخليفة العباسي المتوكل آخر خلفاء الدولة العباسية الأقوياء، حيث بالغ بتجميلها المتوكل وذلك للتنزه فيها حيث قال البحتري فيها وفي ما حوليها: يَا مَن رَأَى البركة الحسناءَ رؤيتُها والآنساتِ إذا لاحَت مغانيها كَأنَّما الفضَّةُ البيضاءُ سائلةً مِن السبائكِ تجري في مجاريها إذا النجومُ تراءت في جوانبها ليلاً حسبتَ سماءً رُكّبت فيها بعد هذه القصيدة بفترة بدأت الدولة العباسية الأولى بالتخلخل في بعض مفاصلها فلربما البحتري رماها بعينه حين أبدع في وصف البركة وأناقة عباراته الأخاذة! وأخيراً حلق بي الخيال إلى ديار الأندلس وتحديداً قرطبة المدينة الإسبانية الآن وتذكرت شاعرة جميلة اسمها ولاَّدة بنت المستكفي الأديبة، والتي عشقها ابن زيدون ورفضت الزواج منه بعد فترة حُب بينهما ماتعة، فقال فيها قصيدته المشهورة والتي منها: وَاللَهِ ما طَلَبَت أَهواؤُنا بَدَلاً مِنكُم وَلا اِنصَرَفَت عَنكُم أَمانينا وَيا نَسيمَ الصَبا بَلِّغ تَحِيَّتَنا مَن لَو عَلى البُعدِ حَيّا كانَ يُحَيّينا رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ مِسكاً وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا أَو صاغَهُ وَرِقاً مَحضاً وَتَوَّجَهُ مِن ناصِعِ التِبرِ إِبداعاً وَتَحسينا كانَت لَهُ الشَمسُ ظِئراً في أَكِلَّتِه بَل ما تَجَلّى لَها إِلّا أَحايينا فعرفت ما لم يعرفه المؤرخون أن السبب في بقاء ولاَّدة بدون زواج رغم جمالها وجاهها وحسبها السبب في ذلك قد يكون وصف ابن خلدون لها وتشبيهاته فلربما رماها بعين أو كما يقال إنها (حوبة) ابن زيدون فتوفيت في الثمانين من عمرها من غير زواج. مؤمن بحديث نبينا صلى الله عليه وسلم بأن (العين حق)، ولكن هل أغلب ما يحدث من مصائب وأمراض وطلاق و... هو نتيجة حسد حاسد؟. أصبحت العين هاجس الكثيرين فلربما مُنع الابن أو البنت من المشاركة في إنجاز مشرِّف أو إقدام على مسابقة خوفا عليه من العين!!. وأعان الله العائن المظلوم فمجرد أن يحكم الراقي بأن فلاناً أصابك بعين فتحل عليه اللعنات. والعجيب أن العلماء اختلفوا في إقامة الحد على العائن فالقرطبي يرى قتله قصاصاً إذا مات المعيون، فلا أدري كيف يتم إثبات الجريمة عليه. ** **