في ليلة قارسة البرودة وفي أحد أحياء موسكو أمسك «ميخائيل بولجاكوف» بمخطوط روايته «الشيطان يزور موسكو» وبعد تردد ألقاها في المدفأة وأشاح بوجهه إلى النافذة، التهمت النار المخطوط وبسرعة حولته لكومة من رماد. احترقت الكلمات وماتت الأفكار، فقد يئس ميخائيل من نشر الرواية، فما كان منه إلا استنشاق رائحه الورق المحترق، لكنه بعد عام كتبها مجددا من ذاكرته واحتفظ به، وبعد وفاته بسبعة وعشرين عاما نشرت زوجته الرواية. ولأن ميخائيل استطاع استرجاع الكلمات المحترقة والأفكار الميتة من ذاكرته، قال على لسان «فولند» أحد أبطال روايته: «الكتب لا تحترق أبداً». منذ سنوات بعيدة تراودني فكرة إحراق مكتبتي، سأرتاح حتماً وأنا أشاهد عباب دخان تلك الكتب التي أفنيت شبابي في جمعها يتصاعد من حولي، يخترق عنان السماء ويتلاشى للأبد، سأبتهج عندما تعبث الريح برماد ما تبقى من ورق، سأتحرر من كل القيود وأغرد مع الطيور فوق شواشي النخيل وأصحب نسمة هواء عابرة تجوب أزقة قريتي، أتحسس برفقتها جدران البيوت العتيقة وتذوب بين أصابعي حكايات أهلها لا تمازج بكل كياني مع تلك اللحظات المنسية. وربما بعد ذلك كله أستعيد شيئاً من شبابي العالق بين دفات الكتب! لا أعلم من أين جاءتني تلك الرغبة الجارفة في مشاهدة النار تلتهم الكتب بشراهة، تتصاعد ألسنتها، تسري في الورق وتحوله إلى رماد يشبه تماما وجوه الموتى، ولكن ما أعرفه أني سأرتاح حتماً من حمل ثقيل جدا سأقفز هنا وهناك وأهبد الأرض بقدمي واستنشق رائحة الورق المحترق وأصرخ عالياً: الكتب تحترق يا «بولجاكوف»، الكتب تحترق يا «بولجاكوف»، الكتب تحترق «بولجاكوف. أي رغبة جارفة تلك التي تجتاحني بين فترة وأخرى إلى درجة أنني أهم بجمع ما تحويه مكتبتي من كتب وأجهزها للحرق وفي اللحظات الأخيرة أتراجع، ويبقى السؤال مشتعلا كلهب النار:لماذا أنا متأرجح بين الانطلاق وعيش الحياة بصخبها وبين الانكفاء على الكتب والبعد عن الحياة الساذجة؟ وهل هذه الرغبة تجتاح معظم القراء والكتاب أم أنا وحدي المبتلى بذلك؟ من الأمور الغريبة التي عاصرتها وما زالت تعشعش في ذاكرتي وربما تشير لمحرك فكري يفسر غرائبية العلاقة مع الكتاب هو ذلك الاعتقاد الذي ساد في فترة مبكرة لدى كبار السن في منطقتنا والذي يقر بأن الكتب خارج المنهج الدراسي خطر داهم يجب التصدي له، فالذين يقرؤون يتحولون لكائنات انطوائية وربما يصابون بأمراض نفسية خطيرة وقد يصابون بالجنون أيضا لذا حرص كبار السن حرص المحب على محاربة عادة القراءة خوفا على أبنائهم. لم يكن ذلك الاعتقاد عبثيا، بل كان له ركائز متينة، لكنني عجزت عن إدراكها وإدراك منبع الفكرة المرعبة. كان أحد أصدقائي في صغره مولعا بالقراءة بشكل كبير يقتني الكتب ويقضي ساعات طوال في قراءتها، ولكن والديه خافا عليه الجنون فاتفقا أن جمعا كتبه وقاما بإحراقها على تبة خلف منزلهما وعندما عاد صديقي لمنزله لم يدرك في بادي الأمر أن الدخان الذي رآه يتصاعد خلف البساتين ويحوم حول منزله إنما هو دخان أوراق كتبه التي التهمتها النار وعندما وصل وجد الحقيقة المرة في انتظاره، وجد كتبه وقد تحولت لكومة من رماد. ربما حال صديقي كان أفضل من حالي، فقد عاش بعد تلك المحرقة حياة هادئة هانئة، أما أنا فعشت حياتي بين دفات الكتب في عزلة تكاد تكون تامة تولدت عنها علاقة مضطربة مع الكتاب والإنسان لأبقى طوال حياتي في صراع نفسي محتدم، لكنني رغم ذلك كنت أتمكن في بعض الأحيان من الإفلات والفوز بلحظات صفاء ذهني أتساءل خلالها عن تلك العلاقة: هل هي نتاج لمجتمع مرتبك أم نتاج لحالة نفسية تلبستني وفي ظل سعيي لفك طلاسم تلك العلاقة وجدت بين طيات صفحات التاريخ أن هناك الكثير من البشر عاش ذلك الصراع، بل إن البعض منهم تعرض للقتل على أيدي الكتب!. ويخبرنا التاريخ بكثير من الكتاب والقراء الذين كانوا ضحايا للعلاقة المضطربة مع الكتاب، فمنهم من أحرق كتبه ومنهم من دفنها ومنهم من غسلها بالماء ومن هؤلاء صاحب الوزيرين «أبوحيان التوحيدي»، فقد تملكه اليأس عندما لم تجد كتبه التقدير الذي تستحقه فأحرقها ليتحرر بدوره من ألم صاحبه طوال حياته، أما ريحانة الشام «أحمد بن أبي الخولي» فرمى بكتبه في البحر ليقطع وصل ذلك الارتباط ولتغيب عن عينيه للابد، وغيرهم الكثير ممن ذكرهم التاريخ أو ممن هبت عليهم رياح النسيان ولم تصلنا أخبارهم. العلاقة المضطربة بين بعض القراء والكتاب ستبقى قائمة ما بقي الإنسان، وستبقى فكرة إحراق الكتب مغلفة بلذة الانتقام والتحرر من المتاعب تداعب عقول البعض ممن أضناهم التعب، وستحل البهجة محل الألم على محيا أحدهم وهو يشاهد الريح تعبث بما تبقى من رماد أوراق أفنى عمره يجمعها، وسيحاول البعض بجدية استعادة شبابهم العالق بين دفات الكتب وسيخرج صوت مختنق من حنجرة أحدهم وقبل أن يذوب ويتلاشى في صخب عالم مادي بحت ينطق بوجل: الكتب تحترق يا بولجاكوف الكتب تحترق يا بولجاكوف. ** **