كلمة «اللُحْمَة» في القاموس تعني الخيوط العرضية التي تتخلل الخيوط الطولية لصناعة النسيج، التي بدونها لا يثبت النسيج وتتناثر خيوطه. اللُحْمَة كتعبير عن «القوة» و«الحماية» استُخدمت وتُستخدم لتوصيف قطعان ذوات الأضلاف التي تلاحقها السباع.. فالوحوش لا تهاجم من هو داخل القطيع، إنما من ينفرد راكضاً عنه. وقد يكون المنفرد عن القطيع مريضاً، ويشكل افتراسه «حماية» إضافية لذلك القطيع من انتشار المرض في صفوفه. من هنا نشأت فكرة أن «اللُحْمَة» هي «مناعة» للقطيع ضد المرض. ولكن لُحْمَة المجتمع ليست قوة وحماية ومناعة وحسب، إنما الأهم من ذلك كله أنها تشكل «الهوية» الاقتصادية - الاجتماعية والمعرفية والفنية والتاريخية والجغرافية لذلك المجتمع. وبالرغم مما يحمله التشبيه بين المجتمع والقطيع من إجحاف إلا أن تشبيه جائحة كورونا بالوحوش التي تفترس المنفردين عن القطيع هو إجحاف مضاعف للقطيع ذاته؛ فما بالك إذن بالمجتمع الإنساني؟ غير أن من روّج لتطبيق فكرة «مناعة القطيع» إبان الجائحة ظنًا منه أن الأغنياء محصنون من الموت، أو أنه بذلك يوفر «مالاً»، فقد وقع في شر أعماله؛ وأصيب هو قبل فقراء الناس ومشرديهم بالوباء! فهل يوجد «عقل» لدى عبيد «المال»؟ الجواب الأكيد أن ليس لديهم «وعي!»؛ فالعقل موجود، ولكنهم لا يستخدمونه إلا «للتجريب» للحفاظ على المال؛ وكأن البشر ليسوا إلا «فئران مختبرات!».. ومع كل ذلك يتراجعون عن تجريبهم؛ لأنهم فقدوا أضعافاً مضاعفة من الأموال بطريقتهم العبثية تلك قياساً بما كانوا سيوفرونه بالتجريب! والكمامات والتباعد الاجتماعي الذي أقروه مجبرين ليس إضراراً ب«اللُحْمَة» الاجتماعية؛ بل تعزيزاً لها؛ فهو «تكاتف المجتمع» على مواجهة الخطر المحدق بالجميع! بيد أن عصرنا هذا يحتاج إلى «لُحْمَة» أكثر تطوراً من اللحمة الاجتماعية التي نعرفها. والأمر هنا لا يتعلق بمجتمع واحد، إنما بالمجتمعات البشرية كلها! ف»اللُحمة» بين الشعوب هي الوحيدة الكفيلة بمواجهة الأخطار المحدقة بالبشر من جراء عبادة المال! فكيف يمكن تحقيق هذه الضرورة التاريخية لاستمرار الحياة على الكوكب؟ مثل هذا الهدف لا يتحقق إلا «بخارطة طريق»، تضع الظالم والمظلوم على مسار تحقيق «العدالة الاجتماعية» التي سعت كل الأديان في التاريخ لتحقيقها. والذي لا يمكن تحقيقه دفعة واحدة، أو مشوار الألف ميل العسير عن التنفيذ بخطوة واحدة، يمكن تحقيقه عبر خطوات! والمعضلة الأكيدة هنا هي أن الظالم لا يمتلك «وعياً!». ومن لا يمتلك وعياً لا يتراجع عن «غيه» إلا بالإجبار! لقد أثبت التاريخ أن الظالم لا يستطيع الاستمرار في «غيه» إلا ب«استكانة» المظلوم له. ومن يُخْرِج المظلوم عن استكانته هو الوعي! وفشلت محاولات الظالمين باستخدام القوة أو التلويح بها في إعاقة نمو الوعي. وفي نهاية المطاف حققت بعض الدول «المظلومة» سيادتها على قرارها؛ بل أنشأ المظلومون دولاً عظمى كالصين؛ خطت خطوتها الأولى ل«الألف ميل»؛ ودعت ل«لُحْمَة» بين الشعوب دون تسلط أو نهب، وتحلم بإنشاء طريق ل«الحرير الروحي». ويبدو أنها لن تنثني عن ذلك، وتبعتها وتتبعها دول كثيرة بهذا الاتجاه؛ فهل سينام البشر يوماً ما على «بساط من حرير؟»؛ وإذا كان الظالم قد تراجع عن «مناعة القطيع»؛ وتراجع عن الحرب الشمولية؛ لأنها انتحار جماعي؛ فليس أمامه الآن سوى «التراجع» عن «غيه» والقبول ب«اللُحْمَة المناعية»؛ لأن الوعي العالمي أو «الوعي الحريري العولمي» قد تفجر! ** **