"ما أن يكتسب المرء عاداته حتى يقضي أيامه من غير صعوبة". هي وصفة أدبية سوسيولوجية لألبير كامو. فلولا التعود، لكانت وطأة الظلم والفقر والقمع والمرض والحب أيضاً أشد حباً. والتعود ليس حالة منسجمة ذات نسيج واحد ينزلق المرء فيه على زمن من حرير ومكان من قصب السكر. لا، التعود هو حالة تشكيل الوعي خلية خلية، تكوّن الصبر، تذوّقه وتجرّعه. ثم تأمّل العلاقة بين الفكرة والتطبيق، بين الحلم والواقع ومن ثمّ الاعتياد على التعوّد ليصبح هذا التعوّد هو الواقع وهذا الواقع هو الواقعة، فيكون الصبر هنا وصل الى ذروته، أي الى مفتاح الفرج. العادة ليست في كل وجوهها استكانة. والتعوّد ليس دائماً رضوخاً. هو مقاومة، استمرارية، هو محاولة الحفاظ على الذات في أصعب الشروط. ومن الواضح هنا أننا نتحدث عن شروط حياة صعبة. وفلسفة من "شبّ على شيء شاب عليه" تستند الى "التعوّد" كتربة للتأمّل وكحاضنة للعمر. لكن، ليت المرء لا يضطر الى التعود على ما لا يطيق، ليته يستطيع المشاركة والمساهمة في بناء وترتيب الحياة والافكار والجماليات والذوق والثقافة والسياسة والرأي والاخلاقيات، اي باختصار كل عناصر الزمان والمكان الذي يعاصر. لكي يكون جزءاً من وجدان العصر الذي يعيش، والذي بدوره يمنحه مزيداً من الدفء الاجتماعي، ومن لُحمة البشر. اللحمة التي تدفع الى احترام ما شارك المرء في بنائه، بل والذود عنه، وبالتالي الدفاع عن العادات التي تكون في مثل هذه الحالة، هي حالة استقرار لمزاج شعب ولثقافته الشفوية أولاً. الشفوية، لأنها الحاضنة الاجتماعية المشتركة والمزاج السوسيولوجي الذي يستقبل المرء في الشارع ويعطي لهذا الشارع الدمشقي روحاً تختلف عن روح شارع في باريس او بيروت او القدس او القاهرة أو جدة، كما تعطيه في نفس الوقت تشابهاً معها كلها، هو التشابه الذي حفظته العادات ونقلته الذاكرات، فصار استقراراً هنا وهناك. وفي كل مجتمع يكون دور الشباب هو الأقوى والأكثر نضارة في تغذية هذه العادات بروح عصرية هي روح عصرهم، من أجل تطوير ما تركه الآباء. التطوير وليس التقديس، التجريب وليس الخوف، الدفاع وليس الخدمة. لكن، هل على الشباب الذين يقع عليهم الظلم الاجتماعي في الشروط الصعبة التي ذكرنا أننا بصددها، هل عليهم ان يفهموا هم المظلومون، ضعف هذا الظلم، وبالتالي ازاحة هذا الظلم عنهم وعن الظلم نفسه!!؟ بالتأكيد هذا تعجيز. فالظلم لا يُعطي فرصة للمبادرة. لا يسمح ببناء عادات طازجة مستقلة ذات ذاكرة يحميها الحب. الظلم لا يعطي للشاب مكان الشاب في المجتمع، هو يعطيه مكاناً للعيش، اي عيش، لكن دون لسان حر وجسد حر وعقل حر وروح حرة يحتاجها أي شاب من اجل ان يستطيع تسليم عصا التتابع في السباق الى الامام، تسليمها من جيل الى جيل. اذاً، في مجتمعاتنا لا يشارك الشباب في بناء روح العصر والمجتمع الا كقوة عمل ميكانيكية، او كقوة بطالة ميكانيكية أيضاً. فيتوارث الشارع والبيت والسوق والدكان عادات لا مزاج فيها ولا روح. عادات، هي عبءٌ بحدّ ذاتها. يصعب التفاهم معها. لا تعرف الحوار، لا تأخذ ولا تعطي، لا تحب معاصريها، ومع الزمن فقدت عصرها. عادات تخشى الموت فتفرض الحفاظ عليها كمقدسات. وإذ يحتاج الشاب الى الحرية التي تدفع احلامه في كل اتجاهات التجربة والمعرفة والمتعة والخطأ والصواب كحق مشروع ومكتسب، لا يجد في الجوّ المغلق الذي يعيش، الا الحد الأدنى من هذه الحرية وهو اوكسجين التنفس. كما لا يسمح له هذا الجو باختراق الماضي كمساحة محتملة اخرى للتأمل، فيتسمّر هذا الشاب بين الماضي والحاضر فرداً مُسيّراً على طريق التعود اليومي المفروض عليه، ويوماً بعد يوم يسير هو بملء ارادته الميكانيكية عليه ويتبادل التحية مع والده وجدّه... ومع قبضة الأحلام في جيبه... ويقضي ايامه من غير صعوبة. كل ما تقدّم هو نتيجة استفتاء اجريته مع مجموعة واسعة من الشبان والشابات في مجموعة من البلدان العربية، حول "هيمنة التعوّد ومناخ اللاحرية". طبعاً لم أسأل احداً، فأنا أيضاً بحكم التعوّد سمحت لنفسي الاجابة عن الجميع لأنني احبهم اكثر مما يحبون انفسهم، وذلك بسبب معرفتي بحكم العادة ايضاً، لحاجتي الى الحبّ تيمناً بالشاعر الفرنسي بول إيلوار: "سنكون طيبين مع الآخرين كما مع انفسنا، عندما نحب ان يحبنا الآخرون". * شاعرة سورية.