أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ببر الوالدين والإحسان إليهما فقال جل من قائل: {وّقّضّى" رّبٍَكّ أّلاَّ تّعًبٍدٍوا إلاَّ إيَّاهٍ وّبٌالًوّالٌدّيًنٌ إحًسّانْا إمَّا يّبًلٍغّنَّ عٌندّكّ الكٌبّرّ أّحّدٍهٍمّا أّوً كٌلاهٍمّا فّلا تّقٍل لَّهٍمّا أٍفَُ وّلا تّنًهّرًهٍمّا وّقٍل لَّهٍمّا قّوًلاْ كّرٌيمْا وّاخًفٌضً لّهٍمّا جّنّاحّ الذٍَلٌَ مٌنّ الرَّحًمّةٌ وّقٍل رَّبٌَ ارًحّمًهٍمّا كّمّا رّبَّيّانٌي صّغٌيرْا} . ففي هذه الآية الكريمة قرن المولى سبحانه حق الوالدين بحقه وهذا لا شك من عظم حق الوالدين وواجباتهما كما قرن المولى جل وعلا في آية أخرى شكره بشكر الوالدين فقال جل من قائل: {أّنٌ اشًكٍرً لٌي وّلٌوّالٌدّيًكّ إلّيَّ المّصٌيرٍ}. هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم ... أما السنة المطهرة فقد اهتمت أيضا بهذا الجانب ووردت أحاديث كثيرة توصينا بالبر بوالدينا وتحذرنا من عقوقهما فقد قال عليه الصلاة والسلام: «رضا الرب من رضا الوالدين وسخط الرب من سخط الوالدين». ليس هذا فحسب بل إن السنة أوصتنا بأن نبر بأصدقاء والدينا كما قال عليه الصلاة والسلام: «من أبر البر أن يبر الرجل ود أبيه» أي أصدقاءه. وفي حديث آخر قرن عليه الصلاة والسلام الإشراك بالله بعقوق الوالدين ولذلك كان سلفنا الصالح بارين بوالديهم مؤدين لحقوقهم .. ولكن كيف حالنا الآن .... لقد ذهبت السنون بالكثير من المحاسن الإنسانية التي كانت مقدسات يتباهى بها الإنسان المسلم ومن أعظم تلك المقدسات طاعة الآباء والأمهات. فقد كان إنسان الماضي يتفانى ويذهب فداء لأبويه بل تذهب روحه ولا تصيب أحد والديه شوكة ... والآن وبعد هذا التقدم الكبير وهذه الحضارة الزائلة صار بر الوالدين شيئا من الماضي الذي يجب أن ينسى.. إن ما نسمعه بين فينة وأخرى من تعرض أحد الوالدين لعقوق وتجاهل لم يعد من الأمور الشاذة والنادرة الحصول بل صرنا نسمع ونقرأ عن مثل ذلك يومياً «بدون مبالغة» حتى أن بر الوالدين واحترامهما أصبح في أحيان كثيرة من النوادر.. وإن التجاوزات التي تحدث بحقهما تجاوزت حدها ولم تقف عند حدود كلمة «أفٍّ» التي نهانا الحق سبحانه عن التفوّه بها بل تجاوزتها. لقد جاء في الحديث أن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله: كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه» وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «الكبائر. الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس». إن المتأمل لهذه الأحاديث وما تحمله من نهي ووعيد شديد للعاق لوالديه تجعلنا نلتزم طريق البر وترك طريق العقوق. ولكن مما يؤسف له أن عقوق الوالدين انتشر في أوساط مجتمعنا فنجد الابن يسب أمه وأباه بشكل مباشر ويسخر منهما بشتى ألوان السخرية. بل هل سمعتم بالرجل الذي قتل والدته المسنة .. والابن الذي أحرق أباه.. والشقي الذي طرد أمه من المنزل ... وآخر يضع القمامة على رأس أبيه. وانتهى المطاف ببعض والدينا إلى دور المسنين والأربطة هرباً من جور الأبناء وظلمهم لآبائهم تلك الدور التي بدأت في الغرب ثم وبكل أسف زحفت لا إلى عالمنا العربي والإسلامي فحسب بل والى ديارنا أي والله ديارنا حينما يضيق أبناء الأب الطاعن في السن أو الأم الطاعنة في السن فينقل الأب إلى بيت يؤويه وأمثاله وتنقل الأم إلى بيت يؤويها وأمثالها حتى يرحمها الموت... فهل كان عندنا قبل ثلاثة عقود من الزمن بل عقدين بيوت مسنين أو مجرد سمعنا بها ... الذي نعرفه ويعرفه كل واحد منا أن البيت الواحد يعيش فيه ثلاثة أجيال ينظم الآذان نومها ويقظتها .. وكنا نحس بمعنى الحديث الشريف «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه». لقد كان بر الوالدين يلي عبادة الله وكان التماس دعائهما أملا كبيرا. أما في هذا العصر الذي انقلبت فيه الموازين والعياذ بالله فخيرا للوالدين أو أحدهما أن يتركا البيت للابن العاق يسعد فيه وزوجه وليقضيا بقية عمرهما في دور المسنين. ولعل من المناسب في ختام كلمتي تلك أن أسوق قصة واقعية حدثت منذ خمس سنوات في هذه البلاد ملخصها أن أحد الإخوان متزوج ولديه أطفال أكبرهم عمره سبع سنوات ويعيش معه والده الطاعن في السن وأمام إلحاح زوجته وكلامها المعسول بوضع والده في إحدى غرف المسجد المجاور لمنزلهم حتى لا يشق عليه الذهاب والإياب من وإلى البيت تيسيراً عليه مع تعهدها بالاهتمام بكل متطلباته طرح الرجل المغلوب على أمره الفكرة على والده الذي لم يكن له من خيار إلا الموافقة على مضض.. وفعلا ذهب الرجل إلى السوق ومعه ابنه البكر «ذي السبع سنوات» ليشتري مستلزمات الغرفة التي في المسجد من فرش وسرير ودولاب ونحوه. وكان من عناية الله به أن ابنه الصغير المرافق له يسأله عما يشتريه ولماذا؟ فكان يجيبه أن ذلك لجده حيث أنه سوف يقيم في إحدى غرف المسجد المجاور لمنزلهم فسأله هذا الطفل الصغير بمنتهى البراءة ومتى نشتري لك مثل ذلك يا بابا؟ فنزل السؤال على الأب كالصاعقة وزلزل الأرض من تحت قدميه وأفاق من غيبوبته فأعاد كل ما اشتراه على صاحب المحل ولم ينتظر أن يعيد له صاحب المحل فلوسه وعاد مهرولا خجلاً إلى والده يقبله ويعتذر له، ويؤكد له أن له أقصى البيت ولهم أدناه أما الزوجة العاقة فقد خيرها بين والده وأبنائه أو بيت أهلها وهكذا عاد الرجل إلى صوابه وفتح الله قلبه وكما تدين تدان والجزاء من جنس العمل وجزاء سيئة سيئة مثلها. إنما تعمله هذه الشرذمة من البشر وهم في الواقع ليسوا منهم وإنما هم على شكل بشر فضلا أن يكونوا من أتباع هذا الدين الحنيف الذي أوصانا بالبر بالوالدين حتى وإن كانا على غير ديننا والإحسان إليهما وطلب رضاهما.. إنه الجحود والنكران والذي هو سمة من سمات هذا الزمن العفن وإلا كيف يجرؤ إنسان أي إنسان إلى قطع اليد التي أحسنت إليه وشقت من أجله ويقطع صلة الرحم الذي أوصانها قرآننا الكريم بالمحافظة عليه والبر به {وّتّوّاصّوًا بٌالصَّبًرٌ وّتّوّاصّوًا بٌالًمّرًحّمّةٌ} . والله الهادي إلى سواء السبيل