وأنا أتابع المحاكمة الثانية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأراقب نقض الرئيس بايدن لقرارات سلفه التنفيذية واحداً تلو الآخر، وإعفاء تعيينات الرئيس الأخيرة من مناصبهم، ازداد إعجاباً بالمؤسسة الإعلامية الأمريكية التي حجبت عنا هذه التفصيلات وأبقت على صورة أمريكا المثالية حتى جاءت شبكات التواصل الاجتماعي لتكشف المستور، وبقدر بيانها لعورة النظام والمجتمع الأمريكي فإنها كشفت أيضاً قوة المؤسسة التي حافظت على مجتمع بهذه التناقضات قوياً وفاعلاً في الداخل والخارج. ومن يقرأ في أدبيات التاريخ الأمريكي يجد أن المؤسسين قد احتاطوا لانزلاق الحكم نحو «الإفراط الديماغوجي والنزعة الشعبوية»، فوضعوا حواجز، وحراسات تحول بين الناخبين والحكم، ولذلك فإنهم في البدايات لم يسمحوا دستورياً بالانتخاب المباشر سوى لمجلس النواب، وحالوا بين «الراديكالي الذي يريد الدخول إلى مجلس الشيوخ باشتراط انتخابه من المجلس التشريعي للولاية»، ومن يسعى بشعبيته وماله للاستيلاء على الرئاسة عليه أن يتوقف في محطة «المجمع الانتخابي»، وتغيرت الأمور لاحقاً وأصبح الشيوخ ينتخبون مباشرة عن ولاياتهم. وبالقدر الذي يُمتدح فيه الدستور الأمريكي بأنه الأقل تعديلات منذ إقراره، فإن العارفين بتعقيدات السياسة الأمريكية يتعاملون مع أعراف توازي الدستور، وهناك سوابق أصبحت لها سطوة الدستور، وبذلك يمكن القول إن الأمريكيين قد طوروا «دستورًا ثانيًا غير مكتوب». ونشأ على هامش الممارسة السياسية العتيدة وسطاء غير رسميين ممثلين في اللجان الحزبية على مستوى الولايات، ورؤساء أحزاب المقاطعات، واللجان الفرعية للكونغرس وغيرهم. ويصف عملهم الكاتب في مجلة ذا أتلانتك جوناثان روش بأنهم يمارسون الوساطة بين حشود «غير منظمة من السياسيين وحشود غير منظمة من الناخبين»، وبالتالي يؤدون المهمة التي لا غنى عنها، والتي أطلق عليها عالم السياسة جيمس كيو ويلسون «تجميع القوة في الحكومة الرسمية». ويزيد روش في تعريفه الوسطاء بأنهم ربما «غير ديمقراطيين، مستبدين، مراوغين، ويعملون بسرية» لكنهم لا يخلون من فضيلة تتمثل في إنقاذ النظام السياسي من الفوضى؛ حيث «قاموا بتثبيط السلوك السياسي الأناني والمعادي للمجتمع». ومع عيوب ومزايا الوسطاء في النظام السياسي الأمريكي فإنهم متهمون من قبل «التقدميين بتخريب المصلحة العامة؛ ومن الشعبويين بعرقلة إرادة الشعب، ومن المحافظين بحماية وتضخيم الحكومة». وعلى الرغم من الإصلاحات التي طالت الوسطاء من لجان وتجمعات فإن النظام السياسي الأمريكي ظل يتهاوى في عقول ووجدان الشعب الأمريكي، وأصبح أكثر عرضة للاختراق. وكان أخوف ما يخافه النافذون من النخب السياسية قديماً وحديثاً أن يتسرب الغرباء والمتمردون إلى النظام السياسي الأمريكي. وبحسب جوناثان فإن أول أعراض انهيار الدفاعات ضد الغرباء كانت بتأسيس حزب الشاي المحافظ الذي نشأ متمرداً على الحزب الجمهوري في أعقاب انتخاب باراك أوباما. وفي استطلاع للرأي أجري عام 2013 رفض أكثر من 70 في المائة من المنتمين لأحزاب الشاي الزعماء الجمهوريين في الكونجرس. وإلى جانب هذا الوافد الغريب إلى معقل السياسة الأمريكية جاء غريبان آخران هما دونالد ترامب وبيرني ساندرز. لقد جاء الرئيس ترامب في وقت تراجعت فيه شعبية الحكومة الفيدرالية، وتدنت الثقة في أي مسؤول سبق انتخابه وتاق الناس إلى مرشحين من خارج النخب السياسية التي يرونها فاسدة ومهتمة بمصالحها على حساب المصلحة العامة. ركّز ترامب، كما يقول جوناثان روش، مشاعر الكراهية السياسية وحقنها في السياسة الرئاسية، وكان لديه التمويل، ولم يكن له سجل سياسي يدافع عنه، ولا ديون سياسية أو ولاء حزبي؛ بمعنى أنه لم يكن هناك ما يمنعه من «نطق كل نغمة من فانتازيا رهاب السياسة بنبرة مثالية». ويعد روش أن كلا من ترامب وساندرز وتيد كروز معتلون اجتماعيًا وسياسيًا - وهذا يعني أنهم ليسوا مجانينا، ولكنهم لا يهتمون بما يفكر فيه السياسيون الآخرون بشأن سلوكهم»، لكن الكاتب يعد «كون ثلاثة من المتنافسين الأربعة على الرئاسة عام 2016 من المعتلين اجتماعيًا وسياسيًا هو علامة على المدى الذي وصلت إليه متلازمة الفوضى» في السياسة الأمريكية. ربما سيجد الكاتب في انتخابات 2020 وما بعدها مادة ضخمة تثري ما ذهب إليه في توصيفه تراكم العلل السياسية في الجسد الأمريكي. وفي ظني أن الرئيس ترامب سيخرج بريئاً من محاكمته الثانية، وسوف يرسي منطقه الخاص ويضع بصمته في مستقبل الحكم والديمقراطية الأمريكية. قد لا يعود ترامب للحكم عام 2024، بل من المستبعد أن يعود، ولكن تلامذته وحواريه سيكون لهم توهج على مدى سنوات قادمة، وكذلك أتباع ساندرز.