** يثق أنه يحفظ أوراقه لكنه لا يعلم أين، ولو شاء البحث فيها أو عنها فسيُفْرغُ زوايا مكتبه ومكتبته ومحتويات ملفاته وسجلاته ليجدَها بعسرٍ لا يأبهُ له؛ فليس فيها ما يستدعي الاهتمام لولا قيمتُها الشخصيةُ بما ضمته من رسائل وقرارات وصور وذكريات، وربما عاد إلى بعضها موثقًا أو مدققًا أو مستشهدًا. ** بقيت هذه الرسالة في مكانٍ خاصٍ بجانب أشيائه الأخصّ؛ فقد أوجعته حين قرأها، وتأملها بعدما استوعبها، واستبقاها فوق عقدٍ من الزمن؛ لم ينسَ موقعَها -وهو النسيُّ- ولم يتجاوزْ إيقاعَها، وقد تجاوز عشراتٍ غيرَها، ولم ينشرها في حينها ولا حين انتفى هدفُها، لكنه استعادها حين غاب صاحبها، وهو موجود، فلا يحضر ولا يُحاضر، ولا يكتبُ ولا يتواصل؛ فقرر بعثها من مرقدها الآمن. ** كتب صاحب الرسالة -على مدى أعوام- سلسلةً اختصَّ بها «الجزيرة» وأسماها: «استراحة في صومعة الفكر»، وجمعها في كتاب بعد ذلك، وكانت الرسالة، أو لنقل: الوصية خاصةً بها، وهذا نصُّها: ** أربعون حلقةً من الاستراحة ربما تكون الأخيرة بعد أن أخلدَ إلى الاستراحة الأبدية، وقد بلغتُ من العمر أرذلَه، وربما أرزله، أوصيك بها خيرًا في حياتي.. وبعد وفاتي.. وشكرًا أخوك سعد البواردي 1431/1/1ه ** نفّذ ما ائتُمن عليه، ونشر الحلقات الأربعين وأستاذُنا القدير ملءُ السمع والبصر، وكان قد هاتفه حينها ليبديَ له تأثره بها وجزع مقلتيه منها وليدعوَ له بطول العمر والعطاء، وكان ممكنًا أن يضعَ الرسالة حيث مئاتٌ سواها فلم تبقَ وصيةً وليس الأستاذ بحاجةٍ إلى وصيٍ ولا «الاستراحة» في مرحلة المسودات إذ استقامت بورقها وإيراقها واحتفت بها المكتبات والقارئون، وإذن: فلم ظلت بجانبه فوق أحد عشر عامًا؟ ** صدقًا: لا يدري؛ فلعله وجعُها، أو لعله رثاءُ الذات عبرها، أو ربما الأسى على مثقف تنويري رائد يلجأُ إلى الاستنجاد بأحد مريديه كي يضمن حياة كلماته؟ ألهذا الحدّ يحتاج الكبير، وهو من يسدد الحاجات كما المفترض، وما هو الضامن لبقاء المثقف لا بلغة التحيز بل بمنطق التميز؟ وهل يحاسب الزمن من أهملوا رموزَهم؟ وهل تساءلنا: أين الأستاذ الآن؟ ** لن يعيد ما كتب حوله قبلًا ولن يستدعيَ الملف الذي أصدرته « الثقافية» عنه ووثقته « الجزيرة» في سلسلة (من أعلام الثقافة السعودية) -عشرة مجلدات أيام الرخاء ولعل من يتمنون موت المؤسسات الصحفية يتأملون- ولكن الاستفهام موصولٌ؛ فمؤسس «الإشعاع» قبل قرابة سبعين عامًا 1375ه (سعد بن عبدالرحمن البواردي، شقراء 1348-) بيننا ولكننا لا نراه، وقد تنبأ بما سيكون قبل أن يكون. ** القيمُ لا تموت.