حين يتواضع الأستاذ ويقول لطالبه النجيب: (مرحبًا بزائر لا يُمَلّ) سيزداد الطالب نجابة، ويتفتّق ذهنه، ويلازم أستاذه، ويحاوره بأمان نفسي، وتتضاعف رغبته العلميّة؛ لأنّ كلمات التعزيز ذات سحر عظيم في نفوس بني البشر. وماذا أيضًا؟ سيحمل علمه، ويبقى مخلصًا له، وحريصًا على ساعات الدرس. ستجعله تلك البشاشة في عيني الأستاذ وقسماته سعيدًا بالزيارة؛ فهو الزائر الذي لا يُمَلّ! بل سيتعثّر دون خوف، ويحاول دون يأس؛ فمصدر العلم والرعاية والاهتمام يملأ القلب سكينة وطمأنينة. العلم لا يزكو في مراتع الجبروت، والتعالي، والمنافسة البغيضة.. أمضيتُ أربعة أعوام على مقاعد البكالوريوس، وعامين في رحلة الماجستير، وثلاثة أعوام في رحلة الدكتوراه التقيت فيها بصنوف من الأساتذة، منهم المتميّز المخلص، ومنهم الضعيف المتخاذل، ومنهم المتعالي بعلمه، ومنهم المتواضع بأخلاقه ... وزاد معيار إصدار الأحكام عندي عالم تويتر الافتراضي؛ فقد عرفتُ فيه ثلّة من كبار العلماء، الذين يأخذون بيد طالب العلم لا يريدون جزاء ولا شكورًا إلّا ثواب العلم، وبركة العمر. ولكنّ السواد الأعظم ليسوا من أهل النفوس الزكيّة؛ لأنّ هؤلاء عملة نادرة، ولو عددتهم لقلتُ: إنّ النفائس ليست مطروحة في طريق المارّة، وما يملأ طرقاتنا سوى ركام الحجارة، وذرّات الرمال المتناثرة. ولا أعجب من ذلك ألم يقل الشاعر: حقًا إنّ الكرام قليلُ، وليس إلى حماهم سبيل! ما زال المعلّمون يظنّون أنّ الطالب -مهما بلغ تميّزه- أقلّ منهم علمًا وفهمًا ومنزلة، ويريدونه منصاعًا لآرائهم وأفكارهم، وإن كانت مغلوطة، وما زال الأستاذ يظنّ أنّ وظيفته تمنحه الحصانة، ونسي أنّ الحصانة الوحيدة هي أخلاقه ونزاهته وعدالته؛ فهذا الطالب يومًا ما سيقف في مكانك، ويتذكّر جيدًا: هل قلتَ له: (مرحبًا بزائر لا يُمَلّ)؟! هل تقبّلت أفكاره بصدر رحب؟ هل تعاملت معه بود وبشاشة وحبّ؟ هل ملأت جيوب فكره علمًا ومرونة واتساعًا؟ وهل أخذت بيده إلى ساحات الحوار مناقشة وسماعًا؟ إنّ المعلّم الحقّ لا يصادر أفكار المبدعين، ولا يسعى إلى إقصاء المتميّزين، بل يمقت الذاتية والهوى، ولا يئد الأفكار والرؤى. تعثّرت أقدامي طويلًا بهذه النماذج، ولم أحزن، ولم تستطع تغيير مساراتي.. كنت أنظر إليها بشفقة؛ لأنّ عدالة الله ستنتصر في النهاية، والبقاء للأفضل، ولن تحجب شعاع الشمس مارّات الغيوم. إن كنتَ أستاذًا... أو كنتَ قائدًا... صفّق للمبدعين، واسعد بالناجحين، وعزّز المتميّزين، ولا تخُن الأمانة، وتحارب وجودهم، وتسعى لتهوين شأنهم؛ فتجبرك الأيّام أن تتهاوى عند أقدامهم، كما فعل إخوة يوسف! وإن كنت من خيار الناس أحبّهم، وقل لهم: (مرحبًا بزائر لا يُمَلّ)! فهذه العبارة كافية أن تغرق العالم بسيل أفكارهم، كما فعلت فعل السحر في نفس سيبويه حين نطق بها الخليل، وخلّدها التاريخ، وتذكّر أنّ الخير باقٍ، والشرّ زائل ... ** **