يقول أحد الحكماء «في الظلام نحتاج إلى من يحمينا من الأشباح، وهذا يدفعنا إلى اقتراف مالا يجوز» وفي ظلام حمى الصراع في الشرق الأوسط الذي تمتد جذوره إلى عقود، وفي انتقال الانتفاضة الفلسطينية إلى حظيرة الكفاح المسلح الدموي وتمنطق عمليات اليأس الانتحارية ضاعت القدس من أيدي العرب لتكون في عهدة إسرائيل كعاصمة لها وبتعميد ومباركة من الحبر الأعظم للعالم الولاياتالمتحدةالأمريكية. تملك المخطط الصهيوني مقاليد دفة الصراع في الشرق الأوسط منذ بدايته، وأخرج بحنكة لوبيه قضية القدس منذ عام 1949م وحتى يومنا هذا ليظفر بها، فقد تم إدراج القضية بين أروقة الخارجية الأمريكية منذ خروجها من الحرب العالمية الثانية كقوة عالمية فتية، وبالتنسيق مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة تم حقن جرعات الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل بدءاً بالقبول بقرار تقسيم القدس وتدويل قضيتها ومن ثم التخلي تدريجياً عن الطابع الدولي للقدس وتوقف الشجب لعمليات الاستيطان فيها لاحقاً، ومن ثم اقتراح نقل السفارة الأمريكية إليها وأخيراً توقيع الرئيس الأمريكي على قانون الكونغرس بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، الذي تم تضمينه في فقرات داخل مشروع ميزانية وزارة الخارجية الأمريكية، وتزامن هذا التوقيع مع تقليص شارون فضاء الحلول ليحصرها في بوتقة مهزلة كرِّه وفرِّه في فرض الحصار على مقر عرفات في رام الله، فيحكم قبضته ليبدأ بجني المكاسب السياسية مقابل فقط الرجوع في المساحة عن مقر عرفات. وفي استعراض لجدلية ضبابية الحل ومرارة الثمن نجد أن الفلسطينيين في السعي لإقامة دولتهم وفصلهم للارتباط الوثيق بين المسارات العربية الأخرى ذاقوا العلقم بخسارة القدس مع خسارة كل العهود والمواثيق. إن الانتفاضة سلاح ذو حدين، وعند حد الخسارة نجد أن جحيم المحرقة الشارونية قد ألحق بالاقتصاد الفلسطيني خسارة تقدر ب 16 بليون دولار أمريكي «بناء على تقديرات د. علي شعث الوكيل المساعد لوزارة التخطيط والتعاون الدولي» وبلغ ما فقدته فلسطين حوالي 2500 شخص من أبنائها خمسهم من الأطفال. نجح اللوبي اليهودي «بفنون سحر إعلامه وسطوة اقتصاده» في قيادة العالم المتحضر إلى أن يأخذ على السلطة الفلسطينية عجزها وعدم قدرتها على كبح سعير الانتفاضة، وفي قلب للأدوار بين الجلاد والضحية غدا صوت الرأي العام العالمي ومواقفه كالسوط على ظهر الفلسطينيين، وفي تمثيل لصورة العصا والجزرة تم ربط مستقبل الدولة الفلسطينية بإعجاز وقدرة قيادتها على إحكام قبضتها على كل فصائل الكفاح المسلح، وشارون ينفخ في الكير على النار مغذياً مشاعر الحقد ومجلجلاً لشعور اليأس في النفوس. لا يخفى على العالم في أن كل أطراف النزاع في الشرق الأوسط تسعى إلي حلول مثالية وعادلة لقضيتها، ولكن التاريخ يعلمنا أنه أحياناً تكون الحلول المثالية غير عملية وأحياناً أيضاً لا ترتبط العدالة بالمثالية. استغلت الولاياتالمتحدةالأمريكية بشكل كبير حملتها على الإرهاب كورقة التوت لتستر بها عورة اعتباراتها السياسية النابعة من مصالحها المتمركزة في منطقة الشرق الأوسط وبظل إسرائيلي لها في المنطقة «ولم نسمع يوماً أن ظلا قد هاجم سيده» لذلك عمدت الإدارة الأمريكية إلى تبني بذرة النشوء والوجود الإسرائيلي. وسعت لتجهيزه بأسنة نووية بائسة، وهي تحاول الآن جاهدة الحؤول دون عراق نووي، وتبشر وتقرع طبول الحرب رغم أنه من الممكن أن تصل فاتورتها للمئين من البلايين، وقد أعلن وزير الخزانة الأمريكي بول أونيل أن أمريكا قادرة على تحمل نفقات الحرب على العراق مهما كان الثمن باهظاً وفي تبريره لهدف الحرب قال: «إن الحرية لا تقدر بثمن، وإن أهمية هذه الحرب من أجل الحرية تفوق المخاوف من تكاليفها». ونسي بول أونيل قول جون ديفنبيكر «الحرية هي حقك في أن تكون على خطأ لا أن تفعل الخطأ». وقد زعمت الولاياتالمتحدةالأمريكية في الترويج لحملتها أن عناصر من القاعدة تعيش في العراق، ولكن تعليق دانيال بنجامين «المدير السابق لشعبة مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي» يفند ذلك قائلاً: «لا يمكن أن يكون النظام العراقي وتنظيم القاعدة شريكين في الإرهاب لأن النظام العراقي العلماني وتنظيم القاعدة الأصولي عدوان طبيعيان». غاصت إدارة الرئيس الأمريكي بوش في التشدد بقضايا الأمن القومي حتى أصبحت هاجسه الأول، وتعتمد سياسته الخارجية على تعويم كل الاحتمالات والغموض يكتنف التوجهات، فتصريحات الرئيس الأمريكي بوش تتأرجح بين إعداد العدة للضربة الوشيكة على العراق بقوله: «إن أمريكا ستقود تحالفا لنزع أسلحة العراق» وعلى الطرف النقيض يقول: «لا تعني موافقة الكونغرس الأمريكي على قرار يجيز استخدام القوة ضد العراق أن العمل العسكري أصبح وشيكاً أو لا مفر منه». إن استقرار أسعار النفط بسلة أوبك هي من أولويات الباب الأبيض العالي في واشنطن لكي تضمن جريان الدم «البترول» في شرايين عصب صناعتها، وأمريكا تسعى إلى أن تضع يدها على خوابي العسل النفطي من احتياطيات العراق دون أن تأبه للسع النحل العربي والإسلامي . «ولعل الاكتشافات للاحتياطيات النفطية الهائلة مؤخرا في جزيرتي ساوتومي وبرنسبي في أفريقيا وقربهما الجغرافي سيسيل لعاب الأمريكان فيلهيها عن ضرب العراق» وقد أخرجت الديمقراطية الأمريكية نشورها ونشوزها وبشمسها الحارقة هي تئد الأمل في بث الحياة الديمقراطية بين أوصال مؤسسات الدول والمجتمعات المدنية التي تقع فريسة لها، فما تفعله الآن في العراق هو تعبئة للشعب في صفوف العسكر، والتجهيز للحرب فإن نجحت في إزاحة صدام، فهناك احتمالان فإما أن تزج العراق في أتون حرب أهلية بين ميليشيات وفصائل تتناحر للوصول إلى سدة الحكم فتغدو العراقأفغانستان الشرق الأوسط، وإما أن تنجح القوى الأمريكية بتنصيب كرزاي عراقي في قيادة مجتمع لا يقبل بتحكم أجنبي ويسعى لإدارة موارد البلاد بحجة النهوض بأمور العباد وبناء مجتمعاته المدنية، وتتمنطق السياسة الأمريكية الخارجية مبدأ ميكافيللي في تبرير تجاوزاتها وابتعادها عن المعاهدات والمواثيق الإنسانية ا لدولية وهي تزكي الاغتيال كوسيلة لتبرير غايتها في الإطاحة بصدام، فقد أومأ أري فلايشر «المتحدث باسم البيت الأبيض» إلى خيار الاغتيال أو الانقلاب عندما أبلغ الصحفيين مؤخرا أن «طلقة رصاص واحدة» من عراقي قد تكون وسيلة غير مكلفة لإزالة التهديد الذي يمثله صدام حسين، وأضاف أيضاً «تغيير النظام مرحب به بأي شكل يتم تنفيذه» وفي محاولة ضغط أخرى لتشجيع الانقلابيين أعلن مسؤولون أمريكيون أن الضباط العراقيين الموالين لصدام حسين سيحاكمون في جرائم حرب. كل ذلك يجري وما زالت السياسة العربية في المهد تحبو والزمن الكبير للمصالح يتجاوزها راكضا أمامها، وهي ترجو الخير عند عتبة الباب الخارجي للمطبخ السياسي الأمريكي وبينما هي تنتظر في الخارج تفوح روائح غير زكية «ناشزة» من ضرب العراق وإهداء القدس لإسرائيل وقانون محاسبة سوريا ومحاور الشر، ولا يسع السياسة العربية إلا أن تلمز وتغمز لبعضها في همس الكلام عن امتعاضها كيلا يعلو الصوت فيغضب شرطي الكون أمريكا. قال إبراهام لنكولن مرة «عندما ينتزع الراعي عنزاً من براثن ذئب تعتبره العنز بطلاً، وأما الذئب فيعتبره ديكتاتورا». فمن الراعي والعنز والذئب بالنسبة لكل من قضيتي فلسطينوالعراق؟ [email protected]