بمناسبة مرور عام على رحيل والدي الدكتور مصطفى بكري السيد رحمه الله كان كل شيء هادئًا، والشمس ترسل خيوط أشعتها الذهبية، مؤذنة ببدء يوم جديد، إنها السادسة وست دقائق صباحًا؛ كسر هذا الهدوء اتصال والدتي مفجوعة، يسبق صوتُ بكائها صوتَ حديثها، ومن هول الفاجعة؛ قالت بلا مقدمات: يا محمد أبوك مات! تعطلت لغة الكلام، وربما توقف العمر، وتوقفت الحياة بالنسبة إلي، تذكرت هذه الأبيات: طوى الجزيرة، حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بأمالي إلى الكذِب كنت أنتظر من والدتي أو أيًا من أصدقاء الوالد الذين كانوا بجانبه تلك اللحظة أن ينفوا هذا الخبر الفاجعة، وما هي إلا سويعات حتى تلقيت اتصالًا آخر: لقد نقلناه من قسم الطوارئ، وسندخله الثلاجة. أدركت -حينها- أن الأمر لم يعد خبرًا يحتمل الصدق والكذب، بل هي الحقيقة المرة: حتى إذا لم يدع لي صدقُه أملًا شرِقت بالدمع حتى كاد يشرق بي لهفي عليك حين أخرجوك من الثلاجة، لثمت وجنتك وجبينك، قبّلت يديك، كنت أرغب أن أقبّل كل مكان في جسدك، في لحظة؛ مرت أمامي سبعة عقود عشتَها كلمح البصر أو هو أقرب، ثم انقضت تلك السنون وأهلها، فكأننا وكآنهم أحلامُ. باتت دمعة العين لغةَ القلب، وكانت الدموع تصمت أحيانًا، وأحيانًا أخرى تستحيل أنينًا حدّ البكاء. أبي كنتَ في حياتك مشرقًا كالضياء، مشعًا كالسناء، وبعد موتك كان وجهك كصفحة القمر إشراقًا، وثغرك كالثلج بياضًا. كنت تعامل طلابك كأبنائك، تخفض جناحك لهم، وتستوعب أفكارهم وتقوّمها، تحفزهم على الإبداع والتميز في حالك ومقالك، كانت دروسُك مهمومةً بالجديد والتجديد، وكانت تلك البذرة التي تسعى لبذرها في قلوبهم وعقولهم. قلت يومًا: «إن شهادات الطلاب من الابتدائي إلى الدراسات العليا هي -بفضل الله- أعلى ما حزته من شهادات، أشكر الله تعالى عليها في الدنيا، وأرجو ثمرتها في الآخرة». إشراقك جعل محبيك وطلابك ومرؤوسيك بل ورؤساءك يهرعون للصلاة عليك، والتعزية بك، «ليتك أبا محمد رأيت حشودًا اجتمعت تصلي عليك، وتشيعك لمثواك، عيونٌ دامعة، وأيدٍ بالدعاء لربها رافعة، ولن يجيد وصف هذه اللحظات إلا أنت، كعادتك». لهفي عليك في قرية الروضة الوادعة على ضفاف نهر الغزيّل المتفرع من نهر الليطاني في البقاع اللبناني؛ ميلادك الأول وذكريات الطفولة، ومراتع الصبا، ثم إلى بيروت فالقاهرة، وبين الأزهرين، أزهر لبنان وأزهر مصر، في ستينات القرن الماضي، أيام انتشار الناصرية، تحولات عميقة مدهشة، نالت منك، ظلت في ثنايا الذاكرة ومنحنياتها، وظلت الروضة وبعض الرفاق هناك كلما زرتَ بلدًا أو سمعتَ شيئًا يذكّرك بهم مصدر بكائك وألمك، يحدوك الحنين إليها وإليهم. قصتك في «الرسوعنيزة» قصة مدينتين استودعتا خمسة عقود من حياتك وحبك، حمدت الله يومًا على أن رزقك حبهما، وكان فيهما ميلادك الثاني، وعطاؤك الإبداعي. كنتَ إذا ذكرتَ «الرس»؛ قلت: «كلاها بحفظٍ ربُها المتكبّرُ»، وحين ألقيتَ رحلك، واستقر بك النوى في عنيزة؛ قلتَ: «المتواضعةُ في تعداد سكانها، الأشبه بعاصمة في طموحاتها وأحلامها ومنجزاتها أيضًا». وجدتَ الانسجام فيها ومع أهلها، واستوعبتْك «باريس نجد» حتى عدك أهلُها من أهلِها حيًا وميّتًا، وظل حبّها ينافس مسقط رأسك حتى غلبه، وضمّ ثراها جسدك. لم يفقدك المسجد ولا جماعته، وحين افتقدوك في صلاة الفجر الأخيرة؛ تفقدوك، ففجعوا بأنك أسلمت الروح لبارئها. ولما غادرت الوالدة عُشها الزوجي؛ «لا ساكنًا ألِفت ولا سكنا»، كيف لنا أن ننسى المكان الذي عشنا فيه، وأهله اللائي عشنا معهم، نحن الفتيان اللبنانيون؟ لم يشعرونا بغربتنا، وكانوا الوالد حين غاب الوالد، والعائلة الكبيرة حين توارت العائلة الصغيرة، ثم تنادوا لبناء مسجدٍ لك -أيها الغريب- ليكون صدقة جارية لك، لقد كانوا نبلاء، وأنت تستحق هذا النبل. أبتِ كنتَ مصدر فرح للقاء، ومورد علم وفكر للمُريدين، كانوا الصورةَ وكنتَ إطارها، وكانوا القصة وكنتَ راويها، كنت تقدم الجدّ في قالب مشوق، وترى أن الأدب والشعر زينة المجلس، خاصة عند احتدام النقاش، ولطالما شهدت جدران منزلك ومنازلهم جِدّك وقفشاتك وضحكاتك. كان العطاء مشروع عمرك، ولم تكُ تنتظر الوفاء. ولم يَثنك عدمه عن الإحسان، صبرت على الضيم، حتى لو كان من قريب، وكنت تتجاوزه بنفس أبية، تغضي عن الإساءة بل تدفنها، وتحتفي وتحتفل بالإحسان وإن قل، سامِحنا -يا أبت- أننا لم ندرك قيمتك إلا بعد وفاتك ربما. وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيًا لا يزال جرح غيابك يثعب دمًا، ولا يزال طيفك وذكرك يستنزل الدموع والدعاء والرحمات عليك، لم نتمكن من إلف غيابك، ولم نستطع تجاوز فقدك، نتجرعه ولا نكاد نسيغه. فيا وِحدة الدنيا وكانت أنيسةً ووحدة من فيها بمصرع واحدِ رب اغفر لأبي، وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، وارزقه الفردوس الأعلى من الجنة، وسائر موتانا. ** **