تمتلىء معارض الكتاب الخليجية والعربية سنوياً بمئات الإصدارات والمؤلفات الأدبية والثقافية في فنون القصة والشعر والرواية والنقد والتحليل والعلوم وشتى صنوف المعارف.. في ظل تباين في العرض والطلب.. ووسط فروقات في الإقبال ومفارقات في التقبل.. ثمة تداعيات ترسم أبعادها على المشهد الثقافي من واقع تلك المؤلفات ومن وقع تلك الإصدارات قياساً بمحتوى المنتج ومقياساً برأي المتلقي.. وبنظرة تحليلية لرصد الجانب السيكولوجي الثقافي بين قطبي المشهد من مؤلفين وقراء فإن المسألة تتشكل في أبعاد الأهداف من التأليف وتتبلور في اتجاهات المنافع من الاقتناء.. تأتي الفروق الفردية والميول الشخصية لتكون «الشاهد الأول» على المؤلفين وتحل الأذواق الخاصة لتكون «المشهد الأمثل».. في مساحة المتلقين.. يأتي الشعر سيداً للحضور وإن طغت عليه منتجات الرواية والقصة في الفترة نظراً لتباين الإتقان بين الفنون الثلاثة فالأول يحتاج «أدوات» خاصة تعتمد على المهارة والخبرة وتخضع لشروط «حرفية» كاملة تظهر الخلل حتى من أراء المتذوقين أمام نصوص مختصرة أو نظم محدد يجعل الحكم «سريعاً» والنقد «عاجلاً» سواء من المتخصصين أو المتذوقين في حين أن الشعر فناً يرتبط بظواهر عامة لدى الآخرين أو بتجارب خاصة تبقى في «ذهن» الشاعر إما أن تكون واقع ذات أو محاكاة لوقائع آخرين.. فارتدى فن الشعر جلباباً فضفاضاً من الاحترافية الأمر الذي انعكس على قلة المنتجات في الدواوين خصوصاً في الشعر التفعيلي بعيداً عن «شعراء النثيرة» الذين كان إنتاجهم غزيراً ومال أكثر إلى الخواطر الخاصة أو السرد التعبيري والذي جاء ليظهر «سيكولوجية» الكتابة في التعبير لما يجول في الخاطر والتقدير لما تستلهمه النفس من «تجارب» ليظل العزف فيه بين قطبين من الإتقان للمفردة والإذعان للسرد ليبقى قالب «النقد» فيه منصباً على جودة العبارات وإجادة المفردات وأيضاً الميل إلى «الاتجاهات الشعورية» التي تنطلق من النفس كتداعيات لموقف حقيقي أو وصفات لشعور مبهم.. وحلت القصة في الإنتاج الأدبي في الآونة الأخيرة في قوالب القصة القصيرة جداً والقصص القصيرة والمجموعات القصصية لتشكل فناً وليداً في التنويع وأدباً تليداً في التشويق حيث تستأثر بالذائقة النفسية وتعكس الإيحاءات السلوكية والإيماءات الشعورية الخالدة في النفس لتتواءم مع القصة كتذوق أدبي يربط بين المنتج الأدبي وبين سيكولوجية الثقافة. وظلت القصة الأكثر ترابطاً مع الذوق الجماعي حيث تستأثر بالاستحواذ على اتجاهات شرائح عمرية أكبر من خلال مناسبة مفرداتها مع الفهم النفسي للوقائع والتفهم الذاتي للنتائج من خلال تشرب معنى القصة ومعرفة محتواها في جانبي الاختصار للتذوق والانتصار للمعنى.. مما جعل ارتباطها السيكولوجي أكبر وأقرب للذائقة البشرية وأعلى في رصيد الفئات العمرية المختلفة الأمر الذي جعلها من أكثر الفنون إنتاجاً وغزارة قياساً بالفنون الأخرى الصعبة مثل الشعر الذي يعتمد على «الجودة الفائقة» في النظم والتعبير والتسطير للنص التفعيلي أو القصيدة المنظومة أو الرواية التي تعتمد على فصول مختلفة وبعد نظر مختلف في رصد «موضوع» روائي يعتمد على التحليل والمحاكاة والرصد والوصف والتشويق والربط الاحترافي بين الشخصيات. وفي الرواية تتشكل أمام القارىء أبعاد سيكولوجية مختلفة وفق «قامة» الرواية و»قيمة» الشخصيات البشرية والأحداث والنتائج التي لا بد من حضورها في أركان الرواية وشروط حضورها كفن أدبي فاخر يعتمد على الإبداع والإمتاع معاً خصوصاً وأنها الفن الأدبي الوحيد الذي يجمع أكبر عدد من الكلمات والأوحد الذي لا يمكن أن تفصل أوراقه أو أن تعزل فصوله عن بعضها بل هو توليفة واحدة تجعله مرتبطاً بأعماق النفس وآفاق الروح في التلقي والتعايش مع الفكرة والمضمون والهدف. ثمة ارتباط سيكولوجي بين النفس والثقافة من خلال الإنتاج الأدبي الأمر الذي يجعل الترابط الوجداني بين الفنون الأدبية والمشاعر الإنسانية جلياً وواضحاً من خلال انعكاسات السلوك البشري في التعاطي مع الإنتاج من خلال التذوق الفكري والفائدة الحياتية واكتساب المهارات وإشباع الميول الذاتية نحو حب الاستطلاع والتعلق بالجديد والارتباط بالمتجدد وكسب القيم الثقافية كالقراءة والبحث والنقاش والحوار وأيضاً توفير عدد من مساحات الاكتساب المعرفي للنفس من خلال القراءة والتلخيص وملامسة العمق الإنساني في القارىء والمتلقي بواسطة القصص والروايات والقصائد التي تتحدث عن معاناة البشر أو آلامهم وأحزانهم وأيضاً سد فجوات الفراغ التي قد تلقي بالشخصية في متاهات المتاعب أو التفكير السلبي.. وأيضاً توظيف ملكة النقد الكامنة التي قد تشتعل وتتقد للغوص في تفاصيل الأعمال الأدبية وأيضاً فتح مسارات سلوكية للمنافع التي يعكسها العمل الثقافي في دروب الحياة. ** ** - كاتب وشاعر وروائي ومؤلف سعودي