* يحيى السماوي * 256 صفحة من القطع المتوسط سؤال له ما يبرره.. ويعطي له شرعية التساؤل.. وقانونية الطرح.. وانسانية الرفض.. لن يكون ابدا من فم مضجع على أريكة يرتشف كأس النخبة داخل سكنه المسكون بكل مغريات الحياة.. ورفاهيتها.. بل وتفاهتها.. مثل هذا لا تؤويه خيمة تهز رياح العوز أو الغربة اطنابها، وانما هو صوت من لا مأوى.. ولا ملجأ له.. ولا وطن له.. وشاعرنا السماوي عراقي استكثر عليه وطنه العربي الكبير ان يجد المقام فيه.. وحده فقط على بعد آلاف آميال.. ولجأ إليه مرغما لا بطلا.. مكرها لا مختارا.. حتي خيمته التي تمنى بها وتغنى عليها استكثروها عليه فرحل دون خيمة.. استعاض عنها بخيمة اغتراب يلوحها الحزن.. وتهزها رياح النفي.. عبر بها سور وطنه المذبوح.. زاده القلق.. وكوثره الرعب.. ووطاؤه الحزن.. وغطاؤه العراء.. واناؤه اليأس.. وهو في طوافه شرقاً وغرباً بعيداً عن الدار لا يرى الا بقايا رجاء.. وجواد خارج الركب.. ونخلة يتيمة على قارعة الدرب ما إن هزها حتى تساقط وطنه في قلبه ليتحمله عذاباً فوق عذاباته.. وصباً مضافاً إلى صباباته: «شدي شراعك» عنوان قصيدته الأولى يخاطب بها راحلته ورفيقة دربه مخافة ان لا يصل. أو أن تسد ابواب الغربة في وجهه... ويتحول إلى انسان بلا مكان.. بعد ان اصبح لاجئاً بلا أوطان ولا عنوان: «شدي شراعك فالطريق طويل وامامنا بعد الرحيل رحيل اني لأبصر في مرايا حاضري قبرا به غدنا الذبيح نزيل» ذكرته النخلة التي تصارع الرياح العاتية بنخيل وطنه التي لا تفارق ذاكرته: «فإذا حفيف النخل لوعة نادب وخرير دجلة والفرات عويل» فتش في اوراقه بحثا عمن ينادي.. ابو ذر الغفاري أنس إليه وارتاح له: «ابا ذر.. قم ان سيفك الذي ينام في المتحف ما عانقه الفرسان وقومك الذين بايعوك بالأمس انكروا البيعة» يالضيعة السيف.. وياللوعة المبايعة مع التنكر.. انه في خطابه الشعري يرسم اكثر من صورة لأكثر من سيرة: «اباذر.. لا العشب في الحقول لا الموجة في النهر تعلم الرجال بعدك الحروب».. أين.؟! في مؤتمرات لا تجدي لأنها تستجدي.. وفي مؤامرات تنسج حبال قيودها لتشل بها الأقدام.. وان امكن الإقدام.. ومن خطابه لأبي ذر في قبره يرى الصخرة رمز قيمة. وقمة. وقامة.. «سُلَّ الضلوع صوارما عضبا واسكب لظاك المر.. والغضبا لا ترهبن يدا مدنسة.. ومجاملا تستهدف الشهبا فاستأصلنَّ الجدار لا فننا واقّلع عيون الشر لا الهدبا» في توافق ضمني مع الشاعر الذي يقول: لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها ان كنت شهما فأتبع رأسها الذَّنَبا ويتحدث عن الجرح.. عن نافذتيه المفتوحتين الواسعتين.. متسائلاَ: « ياوطني الذليل أيقوم من تابوته الجسد القتيل؟! فاكتب وصيتك.. المدائن شيعت اقمارها لا شيء ينبىء ان «بابل» سوف تنبض مرة اخرى».. لا.. يا صديقي الأوطان لا تموت.. ان اقدارها تمهل.. ولكنها ابدا لا تهمل: قد تعاني.. الا ان الذي يطعم الهزيمة هو الجاني.. ماذا قال شاعرنا المبدع السماوي عن مجزرة قانا؟! «تبقين قانا شاهدا.. وشهيدة تحيا.. واما الميت الجلادُ من دمك المغسول بالدم واللظى لابد يبدأ يومه الميلاد» لقد بدأ.. تحرر الجنوب.. واندحر الجلاد.. واظلت شمس الحرية على لبنان.. فماذا كان لك أنت؟! «كان لي في سالف العصر وطن ضاحك النهار لا يعرف غير الفرح الأخضر في حقل الزمن ثم لما هَرِم الماء كبا النخل» ** «السيف قبل الغد» واحدة من ابداعاته الشعرية.. ولوحاته الشاعرية المرسومة بالوجع والاستنهاض» «لدم النضال على الدروب ندى ما قام حق واستجار هدى صبي رحيق الشمس في قدحي وتوقدي. ما عشت متقدا السيف قبل الغمد. ما نبضت تلك الحمائل دونه أبدا» ويسترجع ماضيه على مرآة واقعه.. وبين الماضي والحاضر يترجم ما في دواخله: «اني وان وأد الاسى ولدي فقد اتخذت من المنى ولدا امشي جريح الظل. مغتربا متوثبا حينا.. ومتئدا..» ويستعيد نفس صور المأساة المنجذرة في اعماقه دون كلل أو ملل لأنها كل ما يملك..! ولن تكون مفاجأة إن تكون خطوته التالية خطوة قنوط لا قتوت! لا فائدة منها فهو يملك الشراع والسفينة ولكنه لا يملك البحر.. وسفينة بلا بحر جسد دون روح.. « ما الفائدة؟ أيامنا القادمات. كأيامنا البائدة تكحل بالامنيات الخرافة احداقنا الساهدة اضعنا طريق البيادر ان البساتين ممهورة بالخريف» على هذا النسق من اليأس.. وعلى هذا السياق من البؤس يأخذ شاعرنا الغربة خطوة خطوة دون اي بارقة أمل.. ولا لحظة انتظار!! المتاهة في انتظارنا.. بكل شجونها وشئونها لأنها متاهة زمن.. وضياع مستقبل:! «بهمومنا لا بالخمور سكارى وليأسنا لا للعداة أسارى نحتار سهدا حين يقرينا الدجى ونفر من ضوء الشموس نهارا» هل بعد كل هذه انهزامية؟!.. لا اظن.! واعجابا بشعره.. رغم مذاق طعمه المر سوف نفتح له معا صدورنا.. وقلوبنا.. وآذاننا كي يقول لنا ما به: «قررت ان اقول ما بي ارهقتني هذه الأسرار هربت من ذاكرة النخل ومن مسغبة الامطار» الى أين يا شاعرنا الهروب..؟! يجيبنا على الفور ودون تردد: «مغتربا.! هويتي. دمي الذي يسيل في خاصرة الأشعار ودمع امي. والهوى المعار فمن يُقبل عثرة الشارب كأس النار» اعتراف امام محكمة التاريخ موثق.. دعه للقضاة الحكماء الذين سيأتون ويَحكمون. ولا يتحَكَّمون. هذه المرة اعاد الينا الانفاس الطيبة.. وطيبة الطيبة تستقدمه وتحتضنه بين ذراعيها وتنصت إليه: «اتيت طيبة همي يستبي هممي سعيا على القلب لا مشيا على قدمي يسابق القلبُ اشواقي فيتركني ظلا على الدرب أو عصفا بمضطرم أدار خير عباد الله قاطبة تحكمي بفؤاد الصب واحتكمي بي للأمين من الاشواق عاصفة فهل ألام اذا عانيت من غرمي» ابدا يا صديقي لا لوم عليك ولا تثريب.. بل المثوبة والأجر.. والشكر وقد منحتنا فسحة من الراحة الروحية: ولأنه شاعر.. ولأن الوطن قصيدة تمده بمفردات وادبيات الشعر.. راح يسأل من يملك؟! «من يملك الوطن.. القاتل المأجور. والسجان؟! يا سيدتي. ام رجل المطر نازك. والسياب. والجواهري ام سارق الرغيفة. والدواء. والوطن؟!» ليست اسئلة.. انها اجابات لا تحتمل السؤال.. قد تحتمل المساءلة وهو يدري ممن؟! لهذا نتجاوز «اخت هارون» بحثا عن هارون نفسه الذي نحسه بين تجاويف شعره تارة بالتصريح. واخرى بالتلميح.. ونبحث معه عن الكرامة التي جزت نواصيها: «دربان يقتسمان قافلتي.. متاهات ومنفى في صُرَّتي حسك.. وفي كوزي سراب الامنيات دم الأحبة في بلاد كان فيها النخل مئذنة. وكان العشب إلفا للسامرين على ضفاف العشق» تغيرت الملامح بسرعة وفي صرعة مجنونة كما عودنا في قصائده دون ملاحة او عتب فله عذره.. ولكن ماذا تغير؟! حقوله متعثرة.. عذوق نخله مكبوتة.. شطآنه مقبرة للخير ومغفرة. وخيمة منفى، لم يبق له سوى الجرح. والاحلام الغاربة.. ماذا ابقى؟ لا شيء.. يقول شاعرنا عن نفسه ان صوته خفيض.. ونقول عنه جميعا ان صوته طويل عريض فما الخوف؟! ان صدى شعرك امتد من تراب وطنك الى ملبورن وسدني بسرعة البرق وبالعكس.. عن كل شيء صرختُ.. وصدعت.. عن الحرمان.. والأحزان.. حتى سيدك الخبز!: « يا سيدي . يا خبز ذا وطي رغم الطفولة متعب كهل يا سيدي يا خبز مُرَّ على شعب رغيف صغاره المر احداقنا يا خبز ضيقة وجراحنا فرط الأسى بخل» ومن رغيف الخبز إلى طبق التنويعات التي اكلنا منها في اغلب من محطة استراحة لا داعي للتذكير بها... ولا ببعض تفاصيلها كان هذا سوف يحتزى من وقتنا ما لا يحتمل.. حتى مهاتفته مع المرأة المجهولة لا نرغب التنصت عليها.. ونكتفي منها بأعذب ما فيها: «ضحكت. وفاض عبيرها نغما وتنهدت. لكن على حذر قالت: عرفتك! فاستحيتُ وقد فضح الهوى سري على كبر» حسنا فعلت.. فالحياء من الإيمان حتى في الحب.. وحسنا لو عذرت وقد تجاوزت بعض قصائدك الممتعة «خذني إليك» و«نخلة البرحي» و«اربع قصائد قصيرة» فالعين بعصيرة واليد قصيرة لا هثة وهي تمسك بالتعلم عبر فضاء ممتد مشحون بأثقال الهموم واشجان الغربة.. ومن حقك على المشاركة في احلامك المشروعة: «احلم من جيلين بحقل من شجر الافراح بنورسة.. وطيور كنار ببساتين الأمة ان تخضر وان بيوت الضحكة لا تنهار» كلنا نشاركك الحلم. ونشاطرك الأمل.. والأمل يفتقر إلى عمل.. تلك هي المعادلة الصعبة.. «العصر الردي» الذي تحدثت عنه هو الانسان الرديء الذي يشكله وينسج خيوطه ويرسم خطوطه... «نغيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطلق الزمان بنا هجانا « يادفء شمس الأمس».. ويا حرارة سعير ناس من اليوم.. الشمس واحدة لم تتغير.. اما تلك الحكاية في ليل بهي فمعروفة البداية والنهاية.. نظرة استحسان بريئة.. تتحول إلى حب.. إلى غزل.. ثم الى لقاء.. ووداع.. على امل لقاء جديد لا يتحول الى انتظار وشقاء.. هذا ما قلته وما يقوله اي شاعر ادركه الحظ في رسم لوحة شعره العاطفي.. ومن بهاء الليل الى هذيان العقل حيث تبدو الصورة مختلفة: «ابناء ارومتنا اني أحمل قرآنا عربيا ونياشين. وسيفاً وبواقيت الجاه فليخبرني كل منكم عن مولاه قلبي حدثني عن زمن احيا فيه يصبح فيه القاتل والمقتول سواسية والضحكة تصبح آه» ليس قلبك وحدك.. معك كل قلوبنا حدثت وتحدثت عن الحدث.. عن زمن العولمة.. وتفرد الكبار الكبار بمقدرات هذا العالم.. وبسن تشريعاته وقوانينه وفق المزاج.. المقاومة ارهاب!! والاحتلال دفاع عن النفس!! ولأن شهر يار عالمنا الجديد تتحرك على الساحة حسنا ان اختتم رحلتي معك وانت تخاطب شهر زاد عن بُعد «ان لا توقد الشموع»: فإن شهر يار يستبيح كل ليلة مدينة يغسل في دمائها جنونه ويسكب النيران في آنية السكينة» كنت ايها السماوي رائعا في شموخ السماء. وفي وجع الأرض بحثا عن حيمة تُظل. ووطن يُجل. *الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321