(3/1) وفي هذا السياق القروي جاء الشاعر محمد الثبيتي الذي يشعرك بالقرية، والنص القروي ممتزجاً بشخصيته البدوية وصوته الأجش الجبلي، ولغة جسده التي تحمل كيمياء وكبرياء القرية. وها أنا أسمعه ينشد (تغريبته) و(تضاريسه) في أول أمسيات نادي جدة الأدبي مساء الأحد 1405/5/29ه ومنهما تتضح بعض المعالم والفضاءات القروية. في نصه الموسوم ب«تغريبة القوافل والمطر» نجد في هذه العتبة العنوانية ملمحاً قروياً حيث القوافل والمطر والتغريبة التي تشي بالبداوة والترحل نحو الفيافي المعشبة هرباً من الصحاري المجدبة. كما نجد (الشاذلية)، و(القهوة المرة المستطابة)، و(الربابة)، و(الخيمة)، و(العيس)، و(وادي الغضا)، و(القوافل) وكلها تحيل إلى فضاء المفردات القروية والبدوية. يقول الشاعر: «أدر مهجة الصبح/ صبَّ لنا وطناً في الكؤوس/ يدير الرؤوس وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابة». «أدر مهجةالصبح/ واسفح على قلل القوم قهوتك المرة المستطابة». «أدر مهجة الصبح ممزوجة باللظى.. ... ثم هات الرب ابة/ هات الربابة». «أيا كاهن الحي/ أسرت بنا العيس وانطفأت لغة المدلجين بوادي الغضا». «نظروا نظرة/ فامتطى غلس التيه ظعنهمُ/ والرياح مواتية للسفر/ والمدى غربة ومطر». «يا نخل أدرك بنا أول الليل/ هانحن في كبد التيه نقضي النوافل/ هانحن نكتب تحت الثرى/ مطراً وقوافل»(1). وفي قصيدة (التضاريس)(2) التي حملت الشعرية السعودية إلى الآفاق العربية، وتحولت إلى النموذج الشعري الحداثي الأبرز في مسيرة الشعرية السعودية والعربية - ومازالت كذلك - لما تكتنزه من تجليات حداثية وتكنيكات لغوية، واستحضارات أسطورية، وكائنات رمزية تنقلك من (العراف، وكاهن الحي، وذوالقرنين، والبابلي)، إلى فضاءات لا محدودة من النص الأسطوري ضمن لغة بيانية، وصور بلاغية، وتراكيب غير مسبوقة. ومع كل تلك التجليات تبرز (القرية) كونها الشفرة والمفتاح الدلالي لحركة النَّص، ففي المقطع الثاني من النص المعنون ب (القرين) تظهر أولى ملامح القرية: «أتدرك ما قالت البوصلة؟ - زمني عاقر.. قريتي أرملهْ» إن (القرية) هي التشكل الأولي للحياة المعيشية لكنها تتحول -في عين الشاعر والشعرية - إلى مقولة البوصلة/ التي تحدد الجهات وتُعرِّف بها: فالزمن عاقر.. والقرية أرملة!! وبين ال (عاقر)/ عدم الإنجاب والولادة و(الأرملة)/ التي مات عنها زوجها تبدو الصورة السلبية للقرية، ولكنها (أول المنحنى) التي عاد إليها البابلي: (باحثاً عن يديه) «فاخضر ثوب الحياة عليه». وهي «منبع الطين» التي عاد إليها البابلي «معتمراً رأسه الأزلي/ وأوقد ليلاً من الضوء»، وهي «قوافل الدهناء صادية إلى ماء السماء»: «قد كنت أتلو سورة الأحزاب في نجد وأتلو سورة أخرى بأطراف الحجاز قد كنت أبتاع الرقى للعاشقين بذي المجاز». وأخيراً تتحول القرية إلى: «ميقاتاً لنار البدو ميقاتاً لأعياد اليتامى». و«قمر ترابي تدثر بالشعائر وانتمى للجوع واعتنق الكتابة يفتر عن ريحانة وقبائل خضر وأسئلة مذابة»(1). وهذه (القرية) التي يبدعها الشاعر الثبيتي من بين فواصل الأسطورة، وفضاءات الرمز، ودلالات اللغة، لها انبثاقات نصوصية ضمن مدونة الشاعر قبل ديوان (التضاريس)، ففي نص قديم كتب في شهر ذي الحجة عام 1402ه، بعنوان: (فواصل من لحن بدوي قديم)(2) يقول: «مشرع كالسيف/ وجه بدوي/ من رياح الليل مولود/ ومن طول السفر/ يزرع الرمل خطىً ذات اشتعال/ ورحيلاً/ وشعاعاً من شذا الدهناء/ موصول بألوان العشايا». ويقول: إلى أن يقول: ف (شقراء التصابي) هي القهوة المرة، وهي (الزنجية الشقراء) التي يتحلق حولها (الربع)/ جماعة الشاعر وأقرباؤه، والشيح نوع من الزهر البرِّي/ القروي، و(الدِّلال) الأواني التي تقدم فيها القهوة وتغني (العشيات الثمالى) من فعل القهوة أغنية شعبية يوظفها الشاعر بمفرداتها القروية: (النَّو) ويعني السحاب (مبسم هيا) الفم المبتسم للمحبوبة (هيا) والبرق أو البروق هي البرق اللامع بعد الرعود المطيرة!! كما تأكدت هذه الفضاءات القروية في نص آخر بعنوان: صفحة من أوراق بدوي(1) يقول فيه: ... ... وواضح هنا روح القرية والبداوة وفضاءاتها الشعرية حيث نجد (البعير، والصحراء، والشويهات، والرمل، والشقوق التي تختال في قدم البدوي) وكلها قصائد ملهمة يعتز بها ويفخر أمام سطوة المدينة وإغراءات المطارات بأضوائها ورونقها. (1/4) وفي ذات السياق القروي كان الشاعر أحمد عايل فقيهي من قرى جازان ينشدنا «البكاء تحت خيمة القبيلة»(2) التي يغري عنوانها بالمداخلة معها عبر ما يسمى - نقدياً - ب (العتبة العنوانية) حيث نجد الجملة المفتاحية هي آخر الجملة «خيمة القبيلة» والخيمة هي كل ما علا وستر يتخذها القَبلي/ البدوي مأوى وسكناً ويصنعها من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها «والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين. كما هو النص القرآني!! و(القبيلة) هي المكون البشري المتجانس والمنتمي إلى عنصر ونسب واحد تجمعهم الروابط العائلية والأسرية، و(خيمة القبيلة) إذاً هي رمز للوطن الذي تتحدث عنه القصيدة الباكية، فالجزء الأول من العتبة العنوانية هو (البكاء)، و(تحت) ظرف مكان من أسماء الجهات - كما يقول النحويون - وهنا (التحتية) تحدد مكان (البكاء) وهو تحت الخيمة!! ولأن الطبيعة المكانية للقبيلة هي (القرية) فقد بدأ الشاعر نصه بهذه الافتتاحية: «صباح القرى/ يا صبايا الحي صباحاً توضأ بالصحو، وصب على القلب إشراقة ومطر صباحاً له نكهة العشب تسربل بالغيم وضوَّع في الرمل.. إضمامة وحجر لتلك البلاد...». بهذه الفرائحية يتجلى النَّص فالقرية وصباحها/ البهجة توضأ بالصحو والإشراق والمطر، صباحاً بنكهة العشب الأخضر المتسربل بالغيم. هنا تشكل (القرية) ملمحاً إيجابياً يمنح الحياة إكسيرها من الجمال والعذوبة وصنع المعادلة الإنسانية بمكوناتها وكائناتها. و(القرية) في هذا النص يحددها الشاعر بأنها جنوبية: «هذا ارتحال الجنوب لعشب التراب» ... «لتشرق شمس الضحى من أحلامنا» وهذه (القرية) الجنوبية/ الرمز، ليست ككل القرى المسنَّة، أو البائسة، أو العتيقة، ولكنها قرية مستقبلية، قرية تتشيؤ بهاءً وطهراً وضوءاً؛ وناسها مفتونون بالقادم من الأيام: «عاشق آت أنا من لجة الماضي إلى بوابة تفضي إلى فجر جديد وبلد .... لِيَ في الغيم شراع/ مقعد من سعف النخل ولي من موجةالعشق خيام ووتد» وكذلك هذه (القرية) شامة، حلم، خيال، تتشكل على حقول الضوء والأسئلة، وتأتي على كتف الرياح المرسلة. يقول النَّص: «يا شامة الصحراء/ يا وجهاً توهج في الخيال هذي فصول الحلم تتلوها الرمال وذا كتاب البحر.. من يقرأ/ تلك خاتمة السؤال. يا شامة الصحراء/ يا ألق الصباح هذا ابتداء ينتهي.... وأنا المسافر في حقول الضوء/ والآتي على كتف الرياح»(1) وهذه هي الروح الإبداعية التي يصورها الشاعر أحمد عائل فقيهي عن القرية/ الجنوبية التي تحمل في مضامينها الكثير من الإيجابيات، والجمال. القرية المتسربلة بالغيم والمتوضِّئة بالصحو، القرية التي ألقت على شفة الشاعر قبلة ووتر، القرية المستحمة بالضوء. وكلها دلالات ورموز لقرية صانعة للحضارة، جالبة للتقدم، موحية بالمعاصرة والمستقبل، مبشرة بكل «فجر جميل وبلد يطاول السماء رفعة ومنزلة». وهذه القرية الإيجابية تختلف عن بعض القرى التي وجدناها عند شعراء الحداثة السابقين، فقرى الثبيتي رأينا كيف أضحت «قرية أرملة» تلاحقها «تمتمات البسوس». ورأينا كيف تحولت إلى مدن «مزق الطلق أحشاءها وتقيح تحت أظافرها الماء»!! ورأينا قرى تنتظر من يريق عليها «الرايةا لحمراء/ من يحصي الخطا/ من يعرّي قامة الصحراء من سرب القطا». وأما بعض قرى الصيخان فصباحاتها «مرتبك وجهها» و«تحاصرها المخافات والعباءات الباهتة»، و«تنتعل لغة القاعدين»، و«المضارب هاجعة/ والسواليف نامت/ والرياح قوضت الخيام/ وتكسرت البيداء في ظعنهم». فيما نجد (القرى) عند محمد جبر الحربي، مكللة «بالتعب» ولا «تزرع قمحاً» و«عجت بها ريح الشمال» و«تترك الصحراء أنجمها/ وتبحر في ملفات العويل». هنا يتضح الفرق بين (القرى) التي أبدعها أبو الوليد/ أحمد عائل فقيهي، وبين القرى التي أبدعها رفاقه ومجايليه من شعراء الحداثة!! جدة: الخميس 12-1437/8/17ه (2) (2/1) وفي نفس هذا السياق القروي نتداخل مع طروحات الشاعر المبدع علي الدميني، الذي يعتبر من الرعيل الأول في كتابة القصيدة الحداثية وصاحب تجربة ثرية في هذا المجال تنبئ عنها مجموعاته الشعرية الأربعة(1) التي صدرت حتى الآن. وهو أحد عرابي الحداثة السعودية، شاعر يمتلك خصوبة معرفية شعرية تراثية، وتجديدية تتواشج ذهنياً لينتج لنا النص الشعري الفارع لغة وصوراً وإبداعاً. يقول عنه أحد الدارسين: «إن الدميني أحد القلائل القادرين على ابتكار حيل تعيد الحياة إلى عبارات خرجت من قيد التداول اللغوي والأدبي أو أوشكت على أن تصبح بعيداً عن لغة التداول اليومي. وهو منفتح على فضاءات وعوالم غير تقليدية، ويملك أدوات متعددة تمكنه من الإبداع»(1). ومن خلال إبداعاته الشعرية الحداثية نقف على شيء من التجليات القروية في بعض مجموعاته الشعرية التي أشرت إليها. ففي ديوانه الأول (رياح المواقع) نقرأ نصاً حداثياً سارت به الذائقة الشعرية العربية حتى أصبح من أشهر القصائد/ النصوص على المستوى العروبوي وهو نص: (الخبت) الذي يقول مطلعه: «أنشدت للرعيان ثوب قصيدة في البر عاقرني الفؤاد على النوى وتباعدت نوق المدينة عن شياهي»(2) ومن خلال هذه الافتتاحية نجد القرية ورمزيتها ودلالاتها مبثوثة فيها: (الرعيان، البرَّ، النوق، الشياه مما يؤذن بأننا أمام نص قروي يتعاطي الفضاءات القروية ويبشر بها بد ءاً من عنوان النص/ الخبت، المفردة الشعبية/ الفصيحة والدالة على الوادي العميق المزدان بالنَّباتات، أو هي الأرض المنخفضة والمتسعة في نفس الآن. ومروراً بالقبيلة، والنخيل والمهرة، والكثيب، والهودج، وأغصان الرمان، والبعير، ومرعى الطروش، والتيس، والناقة، والإبل، والحقول، والشيح، والإقط البهي، والعرفج المتيبس طلعه، والعشيرة والبداوة...) إلى آخر هذه المفردات القروية التي يوظفها في النص الشعري. ولا يكتف الشاعر بهذه المفردات القروية بل يؤكد على قروية النَّص، بما يضمنه من شعر نبطي/ قروي، ينتمي للموروث الشعبي في جنوب المملكة السعودية وخاصة منطقة الباحة، وذلك في قوله: «يا الله على الممشى بكره نصوب الخبت والبحر ذا حائط». وقوله: «وجهك من الكادي ذا في الصدر يطرون يا قلب وقف بي ما أقدر على المقدار والله ما لي شف في كادي الديرة مادام هذي الكف ما لمست أمُّون»(1) إن جمالية هذا النص/ الخبت، تتبدى من هذا الحضور الشعبوي/ القروي وتوظيفه بمقدرة شعرية طاغية لدرجة أنك تجد التمازج الشعري بين الفصاحة والقروية في شكل بانورامي متعدد الأوجه وذي مسحة مكانية وإيقاعية لافتة. في هذا النص نجد (التناص) مع قصة آدم وحواء وهبوطهما للأرض: «لا تقرب الأشجار» ألقاها الكثيب عليَّ أرقني صباحي لكن قلبي يجمع الأغصان، يشرب طعمها ويؤلف الأوراق في تنور راحي «لا تقرب الأشجار» غافلني فمسَّها، وهبطت من عالي شيوخ قبيلتي أرعى جراحي»(2) هذا التمرد الشعري على منظومة القيم القروية كان مآله البعد عن العلو الذي تمثله مشيخة القبيلة والهبوط إلى الأمراض والجراح!! وفي هذا النَّص، نجد البلاد/ الوطن الذي لايبنى إلا على السواعد القروية، فهاهو الشاعر/ القروي يعلن عن ذلك بقوله: «هذي بلادي لم أكن أغتابها في الليل بل أهذي بوقع تحرك الرعيان في عرصاتها البيضاء أفردها لهمس الريح ألبسها شتاءً ألتقي والماء في مرعى الطروش وأبتني قصراً من الصفصاف قد أهذي فإن لكل عاشقة شهادة»(1). وفي هذا النَّص - أخيراً - نجد (البعير) الذي يشم (عرفجة) تيبس طلعها/ ويدور في الطرقات ملتهماً بقايا الناس/ والأطفال ونجد (جمل العشيرة) الذي جاء يبحث «في تراث الناس عن جدث، ويحفر في الطريق ملاذة للروح»!! فيسأله الشاعر: «أين مرابض العربان؟ أين مباهج الصحراء والفتيان، والرجل الذي أفردت/ يا وجع العشيرة»(2) هنا نوقن – نقدياً – أن القرية وفضاءاتها رمزية دالة على التمكن والقابلية للتحول نحو الوطن/ الأم. الوطن/ العطاء الذي يؤمن به الشاعر فيختم نصه بهذه التأكيدية: «أعاتب أحبابي، بلادي بفيئها وأهلي – وإن جاروا عليَّ - فهم يدي»(3) وفي ديوان: بياض الأزمنة، نقف عند النَّص الأخير الموسوم ب «معلقة الطائر الجاهلي»(4) وهي عبارة عن نصٍّ طويل في ستة مقاطع، وكل مقطع يحمل عنواناً مستقلاً.. ولكنها تتواشج في منظومة لغوية، ومعاني مبهمة تحتاج إلى شفرات مفتاحية للتواصل مع بواطنها المتشعبة في البعد الجاهلي/ القديم، والمفردات القروية الدالة والرامزة، والكينونة الذاتية المتشظية بين السعادة والتعاسة. ولكن الذي يهمنا من هذه التشظيات فرائد النَّص القروية وسماته الشعبوية التي تعطي للنَّص امتداداً قروياً في لغة واصفة ومصورة. ففي المقطع الأول: طفولة الحصى يتعالق الشاعر مع ذاكرته القديمة حين الطفولة «شاغبت وجهها» وحين كان في العمر الخامس من سنواته الطفولية «بلغ الهوى مع عاشقاته القرويات» وامتد هذا الهوى ما بين «دارين» في المنطقة الشرقية إلى «السروات» في المنطقة الجنوبية: «ولي في قراها عاشقات وإنني بلغت الهوى/ في الخمس من سنواتي نزعت لها من ماء دارين عشبة ففاضت سيول الصيف في السروات طَرِبْت فساقيت الحصى من صبابتي وسِلْتُ وكان النهر بعض صفاتي». .... إلى أن يقول: «مصابيح ولدان يطوفون بالقطا على خيمتي عدواً فأنكر ذاتي»(1). هنا ملامح من القرية التي عاشها الشاعر فهو بين الحصى والخيمة ومع القطا وسيول الصيف في السراة!! وفي المقطع الثاني الموسوم ب (النهر) نجد بعض المعالم القروية من جبال وجداول ماء نهرية، ومناطق جغرافية، فهذا نهر الجهيد وجبال بريدة والطويلة وعروان، ومهران، وهذا الذلول الأبيض وهذه السروات وتهامة وكلها تتخلق شعرياً ضمن نصوصية فارعة بارعة تتنامى من خلال العلاقة العذرية (حباً وعشقاً) مع صاحبته (ليلى)، التي نقش لها صبحه وفكت حروفه ما بين تهامة والسروات!! «وصعدت من نهر الجهيد إلى البُرَيدة/ كان الندى غصناً من الحناء في كفي/ ووجه صبية عبرت مضيق النهر يسكنني/ فأسرج في الجبال مشاعل العشاق: يا ليلى/ دخلنا ذمة العذري فليغفر لهذا الطير/ أن يلج الحرائق طاعناً في الحب/ ريشاً فوق ذلوله البيضاء/ يبني قريتين على سواعده/ ويحلم أن يرى طفلين يشتجران ما بين القصيدة والقصيدة»(1). ويتنامى النص القروي عند شاعرنا علي الدميني لنصل أخيراً إلى المقطع السادس والأخير المعنون ب (خيمة السندباد) فتتجلى القرية ومعالمها حيث نجد الخيام الأولى، والعقيق والطويلة ومهران/الجبل الأشم، والقبيلة والأقداح والقمح الحنطة والأمطار القروية!! «لا شيء يا «مهران» جئتك عارضاً وجهي وأوراق المسافر في يميني.. ..... لخيامنا الأولى دفعت مراكبي ورسوت ما بين العقيق إلى الطويلة مستقطراً غيث الصبيَّة أن تهل رعوده برداً يؤانس وحشتي في نار حنطتها ويسفح من دمي ماء تُسَرُّ به القبيلة»(2). ولانزال مع القرى ومعالمها التي يحيلها لنا الشاعر علي الدميني في ديوانه الثالث(3) الذي يجمع ثلاث تجارب شعرية، وكل تجربة تحمل مجموعة من النصوص وهي كالتالي: (1) ما يشبه النسيان وفيه (أحد عشر) نصاً شعرياً. (2) رنين في الحديقة ويشتمل على (ثمان) نصوص قصيرة. (3) صفات تلمع.. ووحيدة وتحمل (أربع) نصوص شعرية. وفي كل هذه النصوص يبدو (الدميني) شاعر الحرف الأنيق، والفكرة المفردة والمفردات القروية، واللغة التراثية، والموسيقى الخليلية المتجددة في ثوبها العمودي، أو التفعيلي، أو قصيدة النثر التي يوظف من خلالها النَّص الشعبي توظيفاً بنيوياً ينسجم مع النص الفصيح ويتواءم معه في شاعرية طازجة. ومن خلال هذه المجاميع الشعرية (التي تشكل بنية الديوان) نقف أولاً: عند النَّص الموسوم ب «بدايات»(1) لنجد فيه (ربيع القرى) الذي ترك الناس أحفادهم فيه، ونقشوا الحكايا على الصخر، ونجد (حكايات الآباء) الذين (اختلفوا في صفات الشجر)، ونجد (رماح القبيلة التي غاصت) و(الشجر اليانع في رؤوس الجبال)، و(الخيمة البدوية المغسولة بالضوء)، ونجد (الجدَّ البدوي التليد)!! وكل هذه الفضاءات القروية يوظفها الشاعر في لغة رمزية تشير إلى الواقع العربي المتشظي، الواقع العربي الأليم: «سأسألهم أن يقصوا عليَّ حكايات آبائهم يوم كانوا قريبين من منبع الماء، واختلفوا في صفات الشجر ولما رأوا عارضاً من سحاب ينام على سطح جيرانهم سألوا الله ألا يكون المطر سأسألهم أين غاصت رماح القبيلة»(2) كما تشي بالنظر المستقبلي حيث يمثل (الأحفاد) الجيل المنتظر جيل الوحدة والتقدم والانبعاث الحضاري: «سأسأل أحفادنا أن يظلوا قريبين من صفة النَّهر سأبدأ من حيثما يكتب النَّص أحفادُه شجراً يانعاً في رؤوس الجبال/ يدل الندى في الصباح إلى عشبه واليمام إلى سربه، والمدينة نحو الكمال»(3). هنا تظهر قيمة (القرية) ودلالاتها الرمزية في تشكيل الوطن المنتظر، وطن الصحو والغيث والانبعاث الجديد. وثانياً: سنقف عند النَّص المعنون ب «لذاكرة القرى»(1) وهو نص قروي بامتياز، كونه يتعالق مع المفردات والنصوص الشعبية التي تمثل ذاكرة القرى، ويهدى إلى الرمز السردي الخالد في منطقة الباحة وفي المشهد الثقافي السعودي الأديب القاص عبدالعزيز مشري (رحمه الله)، الذي تتشكل لديه الكثير من التعالقات القروية في نصوصه السردية والتي وقف عليها كثير من نقادنا. يبدأ شاعرنا الدميني نصه القروي بهذا المطلع الشعري من اللون الشعبي الذي تشتهر به منطقة الباحة وهو ما يعرف ب (الشقر/ البدع والرد): «أبدع القاف والمحراف، واكتب على ما ينحِّل لهْ من جبال الجنوب ومن سحابٍ نلِمَّه باصبعين يا صديقي على جرح الكتابة ودم ماي نحلَّه قد كتبت القرى «جنَّة» وحبك لها نصبٍ بعين». ويتضح مما تحته سطر في النص السابق، الكلمات المفتاحية للقصيدة ودلالاتها المختلفة المعنى، والمتقفة في الصوت والقول. وهذا هو الجمال والتحدي فيما يعرف بشعر «الشِّقَر» الذي يعرف بتميز أواخر الأبيات بالألفاظ المتشابهة في النطق، والمختلفة في المعنى. وهذه أول المعالم والملامح (القروية) في نص الشاعر الدميني، ثم نجد قرية (محضرة) وهي إحدى قرى منطقة الباحة، القرية التي تجمع الشاعر الراثي والسارد المرثي رحمه الله فكليهما من القرية نفسها، تلك القرية التي «نَبَّتَت بيوتها من عروق الجبال» كناية عن الأحجار التي بُنِيَت بها القرية ومبانيها وحصونها. ومشيراً أيضاً إلى أوصاف المرثي رحمه الله: (فتى ذاهب لحقول البدايات) حيث الطفولة، وعيون الحصى، والشجر المتنامي وغابة اللوز والطلح والعنب الفارسي والرعيني، (سيغسل كفيه من حبق الماء قرب (طباطب)/ مصب الماء والشلال العظيم في القرية. ثم نجد (شامخات الذرى) المستفيقة على (غبش الصبح) وكيف يتذكر الشاعر الراحلين - وهو الغريب القادم إلى القرية -: «يا عزيز/ كل شيء سيخرج من قبره ويضيق/ والحكاية تزهر من باب جدك حتى حصون الفليق»(2). ثم يعيد الشاعر (الدميني) رفيق دربه (عبدالعزيز مشري) من حياته البرزخية، ليطلاَّ على (محضره) «هابطين إلى الخبت/ أو صاعدين إلى نجمة عابرة/ سوف يسأل عبدالعزيز: عن الناس/ عن زهرة في الحقول/ عن الذاكرة/ سوف يسألنا عن جبال تحن إلى قمحها/ عن بلاد تحن إلى عرسها/ سوف يبحث عن صالحة وعطية وجبة الجد الذين م ضوا وخلفوا (اليتم نائماً في ثياب الزمن)»!! ويصل الشاعر أخيراً إلى واقع القرية وتحولاتها مع المد الحضاري والتحديثي وكيف فقدت عذريتها وبكارتها: «لم يعد في الرواسم مما تركنا سوى وجع الكلمات القرى كلمات والندى كلمات والذين أقاموا من الطين والقمح والعشب متكأ للحياة والذين لهم مطر مثل ظلك/ فوق البيوت أصبحوا كلمات فأقم يا صديقي على الباب برزخك الرحب واكتب لنا: عن غناء القماري وشدو الحمام عن صبي تحزم بالحبل في وسطه باكراً ومضى للصرام وعن امرأة تحتفي بأنوثتها حين يأوي الخليل إليها وترفع مشعابها حين يحمى الخصام وأنر ما تبقى عصياً على الموت من صبوات الكلام»(1). هنا صورة للقرية عبر رمزين فاعلين ومنتجين للثقافة/ (الكلمات) (الدميني والمشري). فالدميني/ الغريب/ الزائر والعائد للقرية لم يجد من يناجيه (شعراً) إلا رفيق دربه المبدع (المشري) فقام باستحضاره شعرياً، ليحكي له وعنه ما اقترفته قريتهما (محضرة) فكما أن الغريب (الشاعر) سيطل على القرية سيشاركه هذه الإطلالة رفيقه (المشري): ثم يبدأ (الشاعر) الغريب في تذكر أيامهما البيض، وتجليات القرية في ذهنيتهما الطفولية، وتغيراتها في الكبر، مما يوحي بذلك التلازم الكبير بين المبدعين، وبين المكان وأثر ذلك التعالق في المنتج الشعري: «القرى كلمات/ الندى كلمات/ الذين أقاموا من الطين والقمح والعشب متكأً للحياة/ أصبحوا كلمات». فالكلمات هنا هي الأدب شعراً لدى (الدميني) وسرداً لدى (المشري) رحمه الله. والجميل هنا في هذه (الكلماتية) أنها تأخذ البعد الفصحوي، لترفده بنصوص شعبية/ قروية لتؤكد النَّص القروي!! فإذا كان مطلع النَّص - كما رأينا - منجز شعري/ نبطي شعبي/ قروي، فإنه يتكرر في مطلع المقطع الثاني: «يا شريكي على ما ينحَّا لك، وما ينحِّي يلي تعشق الشمس وسط البحر، وإن كان ما به حايلي»(1). وهذا النص الشعبي على نفس الطرق/ الشقر وكأنه الرد على البدع في المقطع الأول. ثم يتكرر النَّص النبطي/ الشعبي في هذا المقطع: «نقتسم حزن من نهوى و«كاديك» من «دوقه» نحاه ما علينا، ولو بعض العرب خاف من نقد النحاه»(2). إن هذا التوظيف للنص القروي/ الشعبي ضمن النَّص الفصحوي يدل على قدرة هذا الشاعر على أن يصدح بلغة حداثية وإيقاع مغموس في القروية. فيفاجئ القارئ – ضمن نصِّه الفصيح بالنص العامي من شعر الشقر/ العرضة في لحظة جريئة ومخاتلة ولذيذة تعبر عن صانع ماهر وعازف يجيد الدوزنة(3). (2/2) وفي ذات السياق القروي، نصل إلى الشاعر عبدالله الخشرمي، والذي يعد أحد كتاب القصيدة الحديثة منذ فترة مبكرة، وكانت له مشاركات منبرية أولية تعاطى فيها النَّص الحداثي. تقرأ في شاعريته كثيراً من الرؤى والتجليات الإبداعية، وخلق الصور والجماليات الشعرية، وفيها أبعاداً وآماداً من العمق والوعي والجسارة، وتكتنز دلالاتها باللغة الجاذبة والمعاني البكر، والزخرف البلاغي والتصويري. أصدر العديد من المجموعات الشعرية(1) وتحتوي على كثير من النصوص المتعالقة مع البيئة القروية، وتمتاح من آفاقها وفضاءاتها، وتؤطر مضامينها ودلالاتها، ومن ذلك ما ورد في قصيدة (أماه)(2) التي يرثي فيها والدته (رحمها الله): «ها أنذا والتراب سواء/ سواء توثقني عاصف الوقت... والطريق الممدد ما بيننا جثة وبحار أغادرها ونحو الجنوب المهيئ للموت/ نحو الضياع/ الذهول القرى والتراب الذي يتضور شوقاً للقياك». واضح هنا رمزية الموت ودلالاته من خلال مفردات التراب/ جثة/ الضياع/ الدخول. كما يتضح المكان/ القرىة التي احتضنت هذه الوالدة العظيمة!! كما تتجلى قروية الأم أو الأم القروية من خلال ما يضفيه الشاعر عليها من صور ودلالات فهي: «هاجس ويدان من طلحٍ/ وكف الطين يجهش بالتراب/ يا موتنا/ إن جئت من تعب الحصاد/ فنحن حولك سامقون». وهي - أيضاً - «هاجس/ يمتد في ملكوت أوهامي/ أفق/ اسفك دمي/ تتورد القيعان سرداً شاحباً/ اخفض جناح القلب/ تخضر البلاد قصيدة»(3). نلاحظ هنا احتفاء الشاعر بالمعالم القروية في شخص والدته المتوفاة: الطلح، الطين، التراب/ تعب الحصاد/ القيعان/ السرد الشاحب وهذه كلها دلالات ورموز لانتماء الشاعر وأمه المتوفاة لهذه البيئة القروية. كما تتنامى القرية وفضاءاتها من خلال الحوار النفسي بين الشاعر ونفسه متذكراً مقولات الأم وذكرياتها مع الراحلين الأولين: «يصيح الموسم المخضل بالأحباب ويضجِّ فيَّ حنيني الأخاذ للغياب تأخذني يداك إلى ضفاف الدهر: (انظر يا صغيري.. قبر جدك كان فينا شامة للصحو كان مسوراً بالصبح..كان يقينه ريحانة تلتف حول جموحنا.. كانت يداه الأرض.. بذرته الشموس..»(1). هنا يتنامى موت ا