نجاح غير عادي! ان يدرك حلفاء اليهود ان دعمهم لإسرائيل يكلفهم الكثير وان صبر العرب والمسلمين إزاء انحيازهم المكشوف لليهود آخذ في النفاد. إن أبرز ميزة في هذه الأمة، في هذا الظرف، كثرتها العددية، وقلة فاعليتها، وحتى هذه يمكن استثمارها وتوظيفها في الأدوار السهلة، التي تحتاج إلى أعداد كبيرة، ولا تتطلب جهدا متميزا، ولا وقتاً طويلاً، وعملية الهجوم على المواقع اليهودية في (الانترنت) وتدميرها نموذج لهذا الاستثمار. كما أن المقاطعة للبضائع اليهودية والأمريكية نموذج آخر. فشبكة مطاعم (ماكدونالدز) الأمريكية تبرعت بريال من قيمة كل وجبة لمستشفيات الأطفال الفلسطينية حسب ما أعلنته إذاعة (BBC) وذلك بسبب الخسائر التي منيت بها بعد الانتفاضة في رمضان من عام 1421ه وفي صيف 1997م وبعد حملة دامت أربعة أشهر قدمت شركة نايكي (NIKE) اعتذاراً للمسلمين في العالم، وأوقفت مبيعات أحذية ظهر فيها مايبدو أنه لفظ الجلالة، وتم سحبها من الأسواق. كما ان الشركة وافقت على إعداد وتمويل دورات تدريبية لموظفيها حول آداب التعامل مع المسلمين، على ان يتم ذلك بالتشاور مع ممثلين للجالية الإسلامية في الولاياتالمتحدة كما وعدت الشركة بإقامة ملاعب للأطفال المسلمين في عدة مدن أمريكية، وقد تم بناء أحد هذه الملاعب.وفي أغسطس 1999م وبعد ضغط من عدة منظمات إسلامية ودول عربية أعلنت شركة كنج برقر (BURGERKING) إلغاءها لمشروع المطعم الذي قررت تدشينه في الضفة الغربية.وقد قاد الحملة ضد الشركة منظمة (A.M.J) (المسلمون الأمريكان للقدس) بالتعاون مع منظمة كير(CAIR) وطلبوا من الشركة إلغاء المطعم لأنه في أراض محتلة، فخضعت الشركة للضغوط الإسلامية لكنها لم توفِ بوعدها فجددت المقاطعة لها مرة أخرى ومازالت. إن سلاح المقاطعة الاقتصادية من الأسلحة الفاعلة والمستخدمة منذ عصر حصار الشِعْب إلى العصر الحديث، حيث تتعاظم قيمة الاقتصاد. ولذلك استماتت الولاياتالمتحدة في تدمير المقاطعة العربية والإسلامية للشركات والبضائع اليهودية، وللشركات المتعاملة مع اليهود. وبالفعل، فقد تهتكت المقاطعة، وصارت أثرا بعد عين، ويبدو انه من المستبعد حدوث مقاطعة رسمية شبيهة في ظل العولمة الاقتصادية التي تسعى إلى محو الحدود التجارية بين الدول بما لايسمح لأي دولة ان تتصرف وفق مصالحها الوطنية والقومية. لكن الشيء الذي يمكن ان يحدث هو المقاطعة الشعبية، حين ترتفع وتيرة الوعي لدى الشعوب المسلمة، بحيث يختار المشتري البضائع والسلع والشركات العربية والإسلامية أو حتى أي بضاعة أخرى ليست أمريكية ولا إسرائيلية. ولا أحد يستطيع ان يجبر المواطن العادي على شراء سلعة بعينها، أو التعاون مع شركة بعينها، أو عرض منتجات هذا المصنع أو ذاك. وهذا ما فعله غاندي (1869- 1948) بمقاومته السلبية، ومقاطعته للعادات والمنتجات الأوروبية، وحمله الهنود على هذا الأسلوب رغم تخلفهم، وعدم وجود قرار يدعمهم.. حتى آتت تلك الجهود أكلها وأعلنت بريطانيا سحب آخر جندي انجليزي من الهند سنة 1947م وإذا كان من السذاجة ان نتصور ان المقاطعة ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي أو اليهودي فإننا يمكن ان نجزم بأن أرباح الكثير من الشركات والمؤسسات ستتراجع قليلا أو كثيرا، وهذا سيحدوهم إلى إعادة النظر في مواقفهم، وسيضطرهم إلى البحث عن الأسباب ومعالجتها وفق مصالحهم المادية.لقد ألحقت المقاطعة العربية باسرائيل خسائر تقدر ب 48 مليار دولار منذ قامت المقاطعة يؤكد هذا ما نشرته جريدة الحياة في تاريخ 28شعبان 1421ه في صفحتها الاقتصادية عن خسائر شركات التكنولوجيا اليهودية في الولاياتالمتحدة إذ بلغت منذ بداية الانتفاضة المباركة عشرين مليار دولار، نعم أؤكد ان الرقم صحيح عشرون مليار دولار قد يكون هناك انخفاض عام في هذا القطاع، وقد تؤثر تجاذبات الانتخابات الرئاسية، لكن لايمكن التهوين من اثر الانتفاضة بحال. وأصدق اخواني القول: لقد كنت أداري ابتسامة ساخرة على شفتي وأنا أقرأ سؤالا ورد إلي من بعض الاخوة في مصر قبل أسابيع يتخوف فيه من آثار المقاطعة على المسلمين العاملين في تلك الشركات وإمكانية فقدانهم أعمالهم.. وقد قلت في نفسي: أبشر بطول سلامة يا مربع! ثم أردفت: يبدو ان الأخ الكريم أخذ الأمر بجدية كبيرة، وأنه مفرط في التفاؤل وماهي إلا أيام حتى أعلنت شركة سانسيبري انها لا تساند اليهود، وأكدت مصادر اعلامية ان بعض هذه الشركات قد انخفضت مبيعاتها في مصر إلى 80% ونشر في بعض الصحف صرخة باسم الموظفين العاملين في تلك الشركات بأنهم سيواجهون التشريد بسبب هذه المقاطعة. ان أمريكا تمارس سياسة المقاطعة، أو ما تسميه هي بالعقوبات الاقتصادية ضد شعوب بأكملها، مما جعلها تعاني من الموت والدمار دون ان يستدر ذلك عطف الأمريكان أو شفقتهم، ولم تتحرك في ضمائرهم أية لوعة من أجل صور الأطفال الجياع البائسين! ومابين عامي 1993 - 1996م استخدمت الإدارة الأمريكية سلاح المقاطعة الاقتصادية ستين مرة ضد 35 بلدا وأحيانا بحجج واهية نفخت فيها المصالح السياسية، ويقدم كتاب «العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الأمريكية» من تأليف: ريتشارد هاس معلومات مهمة حول أهداف العقوبات ونتائجها فلماذا يتردد المسلمون في استخدام سلاح المقاطعة السلبية ليؤدي بعض النتائج أو ليشعر المسلم على الأقل بان ثمة دورا ولو محدودا يستطيع ان يقوم به؟ إنه جزء من الإنكار القلبي أو العملي السهل الذي لايخسر فيه المرء أكثر من ان يختار بضاعة عربية أو إسلامية أو يابانية أو حتى أوروبية عند الحاجة وربما تكون بالميزات ذاتها، وبالسعر ذاته. وفي قصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة عبرة، فقد قرر ألا يصل إلى كفار مكة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري 4024 - ومسلم 3310) فكتبت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشدونه بالله والرحم فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يحمل الميرة إليهم. وهذا كما أنه دليل على مشروعية استخدام هذا الأسلوب، إلا انه دليل على الروح الإنسانية الصادقة التي تميز بها الإسلام، وحكم بها العالم ردحا من الزمان... ملكنا فكان الصفح منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح ولا عجب هذا التفاوت بينا فكل إناء بالذي فيه ينضح وفي سبيل تفعيل هذه المقاطعة لابد من: أولاً: تعدد اللجان والمواقع الساهرة على إحيائها وتنظيمها ومواصلتها، وتواصل المسلمين مع هذه المواقع الالكترونية أو اللجان الشعبية للتعرف على الجديد، والتوثق من المعلومات، ولابد من الإشادة بالمبادرات السباقة في هذا الإطار كالمؤتمرات واللجان المختصة في الأردن والسودان ولبنان والخليج وغيرها. ثانياً: الوعي الشعبي الشامل، بحيث لاتكون هذه أفكار شريحة خاصة أو نخبة معينة وجمهور الناس بمعزل عنها، هذه تبعات يسيرة يجب ان يتحملها الطفل الصغير، كما يتحملها الشيخ الطاعن، والعجوز الفانية، ويتحملها المثقف كما يتحملها العامي، وما لم يتم توسيع رقعة هذا الوعي وتلك القناعة، فلن يكون ثمة مقاطعة حقيقية، وجدير بالاهتمام ان نشر الفتاوى الشرعية يدعم هذا التوجه، وقد صدرت فتاو عدة عن شيوخ أجلة، وحبذا ان يصدر شيء كهذا عن المجامع الفقهية، والهيئات العلمية، ولجان الفتوى في العالم الإسلامي، وذلك حتى يفهم الناس ان المقاطعة هي مطلب شرعي إلى جانب كونها ضرورة وطنية. ثالثاً: المرحلية، إذ ان الاستغناء عن جميع تلك السلع يعتبر أمرا غير واقعي بالنظر إلى جماهير الناس، وسرعة ركونهم إلى الرخاء والرفاهية، وتأثرهم بالدعاية المضادة، وبالنظر إلى تداخل العالم وتواصله وصعوبة الإبحار ضد التيار لدى العامة ولذا نقترح مايلي: أ - مقاطعة الشركات والسلع اليهودية، خصوصا في الدول التي تتعامل اقتصاديا مع اسرائيل، وفي البلدان غير الإسلامية ويجب التعرف على هذه الشركات بصورة جيدة والاستفادة من قوائم اللجان المسؤولة عن المقاطعة العربية السابقة لاسرائيل ومن الكتب المتخصصة، ومنها: كتاب اللوبي اليهودي في العالم من تأليف: نديم عبدة، مع مراعاة التحديث، وعدم الاكتفاء بالمعلومات التاريخية. ب - مقاطعة الشركات الأمريكية الداعمة لاسرائيل، أو المتعاطفة مع اليهود، وبخاصة الشركات الكبرى، والتي يوجد لها بدائل جدية كشركات السيارات، والأغذية، والملابس، والأثاث، والتجميل، والمصارف، والإعلام، والتكنولوجيا... يجب ان نضع المسلم العادي أمام مسؤوليته المتواضعة، ونساعده على أدائها، ونهتف بصدق للنجاح الذي يحققه، ومن هذا الإنجاز الفردي القليل سيحفر نهر التحرير مجراه، وتتحرك دوافع الإيجابية والمشاركة في ضمير الأمة، وبهذا تتحول (الصيحات الغامضة) إلى برنامج علمي واقعي معقول... فهل بدأنا..؟أشك، وأتمنى! أما التمني... فشاهده في قلب كل مسلم. أما الشك فشاهده شاعر النيل الصوفي المتألق: (محمود حسن اسماعيل) (1327 1397ه) في صرخته: ((طريق الضياء)) معبراً عن مأساة النازحين: بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا كما بدأ الهالكون إذا الصور في جانبيهم ألم بدأنا كما بدأ التائهون رمى الفجر في ناظريهم علم بدأنا كما انتبه الضائعون على صيحة من هدير القمم بدأنا كما انتفض اليائسون على ثورة النور في ليل هم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا العذاب، وفينا السقم وفينا المظالم والظالمون وحوش، وبيد، ومرعى غنم وفينا الكرامة مهجورة حصنة لوثتها التهم وفينا المذلة للغاشمين كأنا -ولولم يشاؤوا- خدم وفينا الدسيسة قديسة تدس الردى في عبير وسم ودقت علينا طبول السماء فقمنا لها من رفات الحلم صحونا وكنا الرماد الهشيم فعدنا اللظى الصارخ المحتدم تباركت يارب.. هذا الجحيم من الرق ما كابدته أمم بدأنا ندمر طاغوته وطغيانه الزاخر المرتطم بدأنا نشق طريق الحياة