المهرجان الوطني للتراث والثقافة الجنادرية أصبح معلما من معالم الثقافة العربية الاسلامية,, لا يختص بحضوره ومعايشة نشاطاته، والتفاعل مع طروحاته التراثية والثقافية، شعب المملكة العربية السعودية وحده,. بل لقد أضحى هذا المهرجان السنوي الحافل والغني بكل جديد ومفيد عرسا عربيا ثقافيا متميزا عن غيره من المهرجانات العربية، باشتغاله واشتماله على كل أصيل ومعاصر في دنيا الثقافة العربية وتراثها. ان الثقافة في مفاهيم العصر ليست ما يدور في فلك الأدب كالشعر والمقالة، والرواية والمسرحية، والقصة، والنقد، ونحو ذلك، وليست هي دراية ومعرفة شيء,, من كل شيء. بل هي ركائز الأمة وثوابتها التي هي، بالنسبة للمسلمين، أصول الاسلام وفروعه، عقيدة وشريعة,, تستند في منطلقاتها كلها الى الكتاب والسنّة, فهما مناط وأساس الثقافة العربية الاسلامية وما تصادم معهما قولا أو فعلا وجب ألا يحسب على ثقافة الأمة. من هذا المنطلق أجد أن الحرس الوطني وعلى رأسه قائده الهمام، ورمز مسيرته الحضارية سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله قد أنجز خلال الأربعة عشر عاماً من قيامه وفعالياته الكبيرة والكثيرة، مالا يقاس بسنوات وجوده في عالم الوجود. ولقد كان من حكمة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز والعاملين معه في هذا المهرجان انه لم يجعل نشاطه مقصوراً على فترة الماضي وحده أو الحاضر وحده، بل جعله يغرد في سماء الابداع الفكري بجناحين متوازنين هما: الأصالة بتراثها الماجد، والمعاصرة بعنفوان تجددها الرافد، من المحلي والوافد. وما ذاك إلا أن الحرس الوطني ليس مؤسسة عسكرية فحسب, بل هو الى جانب واجبه الوطني عسكرياً، فهو مؤسسة حضارية تعنى في جملة ما تعنى به، بحماية التراث الوطني، وثقافة الأمة العربية بثوابتها وقيمها الأصيلة. لقد اهتمّ المهرجان الوطني وعمل على ربط الحاضر بالماضي، تأصيلا وتوصيلا لخلق الترابط بين الأجيال وموروثاتها لرسم صورة الحياة بينها في جميع المناشط التراثية، وأساليب عيشها وتقاليدها الحياتية السائدة حينذاك، قبل أن تنتعش البلاد بما أفاء الله عليها من كنوز الأرض، ورفع عنها غوائل الجهل، والفقر والمرض، مما جعلها في مستوى من الرقي الحضاري تجاوزت به ما يسمى بالعالم الثالث بيد أنه يفترض في المسلمين عامة أن يكونوا أو يُسمَّوا العالم الأول لشرفهم بأن يكونوا حمَلة خاتم الأديان السماوية, لو أنهم عملوا بدينهم كما يجب ان يعملوا (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة). ان هذا الجانب الأصالي متوافر في النشاطات الكثيرة والمتنوعة في قرية الجنادرية بكل مفيد ومرفه. أما في الجانب المعاصر فحدّثوا عن النشاطات الثقافية الكبرى ولا حرج, ففي كل عام يطرح المهرجان محاور جديدة، فيما يخدم قيم الأمة وقضاياها الثقافية، وفي مقدمة هذه القضايا محاولة تصحيح مفاهيم أهل الملل والديانات الأخرى، حول الاسلام، وحقائقه، وأنه خاتم الأديان السماوية الذي أراده الله منهج حياة للبشرية حتى قيام الساعة، وأنه لا أجلَّ ولا أمثلَ منه، وحاشاه أن يكون دين إرهاب كما يزعم أعداؤه أو أنه يحارب التطور الانساني، أو أنه يهضم حقوق المرأة,, أو أنه,, أو أنه,, ونحو ذلك من التهم الباطلة التي يلصقها به أعداؤه ومناهضوه,, وقد يشترك معهم في بعض هذه التهم بعض المنسوبين الى الاسلام وهو منهم ومن تهمهم براء. فكانت ندواته الكبرى والمثيرة بين الاسلام والغرب والتي شارك فيها عدد من جهابذة الفكر والثقافة الغربيين قبل السنتين الأخيرتين ذات تأثير كبير في جدوى الحوار لا الصراع بين الاسلام والديانات الأخرى، لو أنها توبعت بعناية ودراية في ترجمتها الى عدة لغات، ونشرت على أوسع نطاق ممكن، وزودت بها الجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية في العالمين الغربي والشرقي، وكذلك دعاة الاسلام ليقارنوا لدى مدعوّيهم بين وجهات النظر لدى الطرفين: المسلمين، واصحاب الديانات الأخرى. لو أن تلك الأوراق والمحاضرات التي قدمت في مهرجان الجنادرية خلال السنوات الماضية وظفت في الدعوة الاسلامية التوظيف الأمثل,, لكنا قد شاهدنا لها آثاراً ايجابية فاعلة في تصحيح المفاهيم لدى أولئك الذين ما برحوا يحاربون الاسلام بأقلامهم وأفلامهم (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمُّ نوره ولو كره الكافرون). إن خمسة عشر عاماً مرّت على وجود هذا المهرجان الوطني المتفرد بتراثه الفكري، وعمقه الثقافي، وشموليته لصور حياة المجتمع في غابر الزمان لهي مدة كافية لأن تظهر له وعلى أوسع مدى حصاد وخلاصات ما أنتج في هذه السنين الخمسة عشر,, وتزويد المثقفين الذين شاركوا فيه خلال هذه المدة بهذه الخلاصات في كتب مقروءة وشرائط مرئية ومسموعة. ولاشك أن الحرس الوطني الذي تبّى هذا المهرجان وصرف عليه المال الكثير قادر بإذن الله أن يحقق مثل هذه الآمال المعلقة عليه. وعلى الله التوفيق والسداد.