بالتأكيد هناك توتر شديد بين الإعلام الأمريكي والإعلام العربي.. هناك مغالطات شديدة للدفع بالبلدان الإسلامية إلى دوائر العنف والحرب.. الجدل قائم وحاد بين صورة (الأنا) و(الآخر) ولن يحل بالجلسات الدبلوماسية الهادئة والعابرة، ولا بالمانشتات الصحفية عن أن الأزمة (سوء تفاهم) وسينتهي في القريب العاجل!! ومن لا يصدق فليقرأ بعناية مقولات هنتجتون وبيان الستين أمريكي.. للأسف مازال دور المراكز البحثية العربية والإسلامية، ودور المختصين والأساتذة الثقات، مازال هذا الدور مهمشا أو انفعالياً لتلبية الآلة الإعلامية وفقط. لكن المسألة تحتاج الى دقة المنهج ورؤية العالم المختص بالأساس، حتى يصبح من الممكن طرح استراتيجية لما يهدد كيان الحضارة الإسلامية وليس فقط الدول.. في هذا السياق العلمي بدأ مجموعة من الباحثين المسلمين رصد ما يجري وتحليل المقولات الرائجة في أبواق الدعاية والإعلام، من هنا تكتسب الدراسة التي أعدها الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ المعاصر بعين شمس أهميتها، لكونها تقارن بين أفكار اثنين من مفكري الغرب الأمريكي وهما صمويل هنتجتون وجون إسبوسيتو، ويكاد كل منهما أن يقول كلاما مغايراً تماما لما يقوله الآخر. مزاعم هنتجتون في إطار بحث الغرب/الامريك ي عن عدو يرى هنتجتون ان السياسة الكونية بعد ان دخلت الحرب الباردة ذمة التاريخ أصبحت متعددة الاقطاب، متعددة الحضارات، بعد ان كانت ثنائية القطب. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة، لم تعد الفروق التي تميز بين الشعوب، إيدلوجية أو سياسية أو اقتصادية، وإنما أصبحت فروقا ثقافية. وعلى امتداد الخطوط الثقافية منذ اواخر التسعينات يعاد تشكيل السياسة الكونية، فالثقافات المتشابهة تتقارب والثقافات المختلفة تتباعد، وتفسح الانحيازات التي تعتمد على الايدلوجيا والعلاقات مع الدول الكبرى تفسح الطريق لتلك التي تعتمد على الثقافة والحضارة، ومن ثم فالحدود الرسمية يعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية والعرقية والدينية والحضارية. اي ان المجتمعات الثقافية تحل محل تكتلات الحرب الباردة. ومن هنا فالحرب في النظام العالمي الجديد لن تكون بين طبقات اجتماعية غنى وفقير وإنما ستكون بين شعوب تنتمي الى كيانات ثقافية مختلفة. ويقسم هنتجتون عالم ما بعدالحرب الباردة إلى سبع أو ثماني حضارات كبيرة هي: الغربية، الإسلامية، الصينية، اليابانية، الهندية، السلافية، الارثوذكسية، الأمريكية اللاتينية، وربما الافريقية، فالمصالح والخصومات بين هذه المجموعات الحضارية والثقافية ستترتب بالضرورة على عوامل ثقافية ومدى التشابه والاختلاف فيما بينها. يقول هنتجتون: إن زوال الدول المحددة على أساس إيدلوجي في أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، قد أتاح الفرصة للكيانات والعداوات الاثنية التقليدية ان تتقدم الى الصدارة. فالسؤال الذي على أساسه تترتب صداقات او عداوات الدول لم يعد إلى أي جانب أنت؟ وإنما حل محله سؤال: من أنت؟ وعلى كل دولة ان تجد إجابة، هذه الإجابة هي هويتها الثقافية التي تحدد مكانها في السياسة العالمية وتحدد ايضا أصدقاءها وأعداءها. ينتقل هنتجتون الى فرضية أخرى تخص العلاقة بين الإسلام والمسيحية كثقافتين وحضارتين، حيث يرى ان الصراع الذي دار في القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينية لم يكن سوى ظاهرة سطحية وزائلة، بعكس الصراع بين المسيحية والإسلام فهو صراع مستمر وعميق. فعلى مدى أربعة عشر قرنا بينهما كانت العلاقة بين الحضارتين (عاصفة) على حد تعبيره. وبأسلوبه الانتقائي وعقليته المنحازة لم يبرز من الوقائع سوى ما يثبت (دموية) الحضارة الاسلامية وتهديدها للغرب، وذلك مرتين على الاقل في القرنين السابع والثامن الميلاديين (الوصول الى جنوبفرنسا) والثانية في القرن الخامس عشر (وصول العثمانيين الى أبواب فيينا). ليخلص من ذلك الى ان الحضارة الاسلامية هي (الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك). ويرجع هنتجتون أسباب الصراع الى طبيعة الديانتين والحضارتين، مع محاولة ربط ما يحدث بالحركة الأصولية الإسلامية التي تسعى إلى (أسلمة) الحداثة الغربية لمواجهة الغرب المسيحي وتقويض أركان حضارته المريضة. على هذا الأساس يطرح هنتجتون مقولته الرائجة (الحدود الدموية للإسلام) على اعتبار أن الحروب الطائفية التي طفت على السطح بعد نهاية الحرب الباردة قد حدثت على امتداد الحدود الملتفة عبر أوراسيا وافريقيا والتي تفصل بين المسلمين وغير المسلمين أي إنها صراعات بين الإسلام والآخرين على حد زعمه. في هذا السياق لا يستبعد هنتجتون قيام تحالف إسلامي/ كونفوشيوسي ليس لتقارب ما بين الديانتين ولكن على اعتبار أن (العدو المشترك يخلق مصلحة مشتركة) تسهم في التطور التكنولوجي والحصول على أسلحة متقدمة. بالمقابل فإن هذه الحرب الباردة بين الإسلام والغرب سوف تسهم في تقوية (الهوية الأوربية) بشكل عام، وعلى هذا النحو يستمر هنتجتون في استنتاجات كثيرة مبنية على أساس واه وعلى فرضيات مغلوطة بالأساس فهو بعد ان اعتبر (الميل الاسلامي إلى القتال والعنف من حقائق القرن العشرين التي لا ينكرها المسلمون أو غير المسلمين) يبدأ بالتالي في سرد أسباب هذه الدموية منها ان (الاسلام دين سيف) وأنه نشأ بين (قبائل بدوية متناحرة) وأن القرآن ينادي بقتال (غير المؤمنين به) وكلها عوامل في زعمه خلقت ميراثا من الكراهية عند الشعوب التي دخلت في الاسلام أو عاشت تحت رايته، ويختصر هذا كله في ان الاسلام عقيدة استبدادية يصعب التكيف والعيش معه. من هذه (الترهات) الفكرية يطرح هنتجتون أجندة للسياسة الأمريكية لإدارة أزماتها وتزييف الوعي العام في العالم وصرف انتباهه عما يجري في الواقع من سياسات امريكية، وتنقسم هذه الاخيرة الى اهداف قريبة تتلخص في زيادة التمسك الأمريكي الاوربي بمشروع الحداثة الغربي والحفاظ على التفوق العسكري ودعم المؤسسات الدولية التي تروج لهذا المشروع اما الاهداف البعيدة فتتمثل في التراخي مع الحضارات الحديثة غير الغربية التي تقترب قوتها من قوته وأن يستخدم مع الحضارات الأخرى سياسة (العصا والجزرة) واستمرار فرز المواقف لتحديد العناصر المشتركة بين الحضارات الغربية وغيرها. إنصاف إسبوسيتو يرى إسبوسيتو أن هناك في الغرب (ترويجا متعمدا) لمقولات مثل دموية الإسلام وتهديده الحتمي للغرب، خاصة منذ ظهور آية الله الخميني على مسرح الأحداث ووصفه لأمريكا بأنها (الشيطان الأعظم) وكذلك النداءات المتكررة لصدام حسين بالجهاد ضد غير المسلمين. وفي التسعينات بعد الفراغ الذي ولدته نهاية الحرب الباردة بدأت المخاوف تزداد من أن يملأ الإسلام هذا الفراغ كطرف في حرب ضد النظام العالمي الجديد. لهذه العوامل بدأت الطروحات عن حتمية التصادم بين القيم أو ما يسمى بصراع الحضارات، وروجتها بالأساس عناوين الصحف الامريكية واسعة الانتشار مثل (الحروب الصليبية لازالت مستمرة) (الحرب الإسلامية ضد الحداثة) الى آخر هذه العناوين المثيرة. ويستنتج إسبوسيتو من هذه العناوين أنها شوهت الحقائق السياسية حول العالم الاسلامي واختزلت علاقاته المتنوعة مع الغرب، ومن ناحية اخرى كرست لدى الغرب (الجهل المذهل بالعرب والإسلام) لدرجة ان البعض مازال يتصور ان العرب ما هم الا بدو او شيوخ بترول يسكنون في الصحراء أو الحرملك وأن العربي انفعالي، مقاتل، ولا يخضع تصرفاته للعقل). من هنا ينتقد إسبوسيتو أساليب الإثارة المغرضة في الصحف الغربية، وكذلك الدراسات الأكاديمية التي جرت على نفس المنوال (الانتقائي) والتي عجزت عن فهم التجربة الاسلامية من كافة جوانبها لتختزلها في صور نمطية معادية للغرب، وبالتالي «قصرت مجال رؤيتنا بدلا من توسيع آفاق إدراكنا). ويضرب مثلا بهذه الدراسات الشهيرة وهي محاضرة (جذور الغضب الإسلامي) للكاتب الشهير برنارد لويس، ويؤكد أن هذه المحاضرة تنطلق من فكرة تحريضية محددة ومستفزة ضد الإسلام والمسلمين، وموجه الى القارىء الأمريكي بدليل أن غلاف مجلة أتلانتك الشهيرة صور وعليه صورة رجل مسلم ملتح متجهم الوجه يرتدي عمامة، مع علمين أمريكيين منغرسين في عينيه الشاخصتين، وبالطبع يرتبط هذا الغلاف المغرض بما تريد المحاضرة المنشورة في المجلة ان تقوله: ويتساءل اسبوسيتو ما الذي يدفع الحكومات الغربية إلى هذه المعالجة المغرضة، وإلى هذا المنظور السياسي الإيدلوجي الانتقائي، الجاهز، ويلخص الأسباب في: خدمة أهداف سياسية أو عسكرية أو إرضاء لليهود وخدمة لأهداف إسرائيل. من النقاط الاساسية الاخرى التي يعلنها اسبوستيو بجرأة الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام الصهيوني في تشويه صورة كل ما هو عربي ومسلم، والتأكيد على ان مقولة (صدام الحضارات) تلقى دعما قويا ممن يقفون خلف اسرائيل ويدعمونها، فعلى سبيل المثال يرى أن اعتبار الانتفاضة الفلسطينية علامة على التهديد الاسلامي الحتمي، اعتبار مغرض ومغلوط، فالانتفاضة ببساطة نتيجة مباشرة لاستمرار الاحتلال الاسرائيلي للضفة وغزة، بالإضافة إلى حالة اليأس والقنوط التي انتابت الشباب الفلسطيني). أما القول بالبعد الاسلامي (في منظمة حماس والجهاد) فلا يصح اتخاذه دليلا على تهديد اسلامي؟ وإنما زاد حجم نشاط هاتين المنظمتين كنتيجة مباشرة لعجز السلطة الفلسطينية عن التوصل الى حل للموقف بصورة فعالة أي أن ما يستشهد به الغرب على عداء إسلامي حتمي يمكن قراءته بشكل مختلف تماما. على نفس المنوال يفسر اسبوسيتو كراهية العرب والمسلمين للولايات المتحدةالامريكية كنتيجة طبيعية لكراهية الاستعمار وسياساته التي لم تتوقف بعد وكذلك الانحياز الامريكي لإسرائيل، ومساندة الولاياتالمتحدة للأنظمة القمعية. أما مقولة (الحدود الدموية للاسلام) (وعدوانية المسلمين) فيؤكد إسبوستيو على أنها إحدى الأساطير الرائجة في الغرب منذ قرون بعيدة وليس وليدة هذه الايام، فالغرب اما يتهم الحضارة الاسلامية بالدموية وإما يتهمها بالدونية. ويقر الرجل بأنه كانت هناك مواجهات طويلة بين الحضارتين خلفت ميراثا حاضرا في ضمير الغرب، وجعلت اوربا تخشى الإسلامي وتسيء فهمه، لأنها وجدت نفسها في بعض المراحل في موقع دفاعي أمام الجيوش المسلمة، وأحيانا كانت تدافع من أجل مجرد البقاء نتيجة لهذا الخوف القديم وعلاوة على شعور الأوربيين بأنهم ينتمون إلى عرق يسمو على كل الاعراق، تكثر المغالطات الفكرية التي تتعمد إساءة فهم الحضارة الإسلامية وعدم تقبلها لدى قطاعات واسعة في الغرب الامريكي.