* بقلم : ستيفن ج. بروكس - وليام س. ولفورث(*): منذ ما يزيد على عقد من الزمان كتب كاتب العمود السياسي تشارلز كروثامرمدعيا الوصول إلى ما أطلق عليه لحظة القطب الواحد «unipolar moment» تلك اللحظة التي سوف تشهد تربع الولاياتالمتحدة. القوة العظمى الوحيدة في العالم. فوق عرش بقية المجتمع الدولي بشكل تام. وفي غضون السنوات التالية انهار الاتحاد السوفيتي واتخذت عملية تدهور القوة الاقتصادية والعسكرية الروسية إيقاعا متسارعا ودخلت اليابان في حالة من الركود في حين مرت الولاياتالمتحدة بواحدة من أكبر عمليات التوسع الاقتصادي و أطولها في تاريخها و مع ذلك فمع ختام القرن الماضي طالع القراء ما كتبه أحد علماءالسياسة وهو صمويل هانتجتون طارحا هنا أيضا أن أحادية القطب أفسحت المجال بالفعل إلى بنية أحادية - متعددة القطب «uni -multipolar» والتى سوف تشهد بدورها تحولا ليصبح النظام العالمي نظاما متعدد الأقطاب بشكل خالص، وبالرغم من التفاخر البلاغي للمسئولين الأمريكيين لم يكن هانتجتون يرى وحده هذه الرؤية. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 40% من الأمريكيين اتفقوا على أن الولاياتالمتحدة كانت إحدى القوى العظمى المتعددة وقد شهد هذا الرقم ارتفاعا على مدار عدة سنوات. والسؤال : لماذا كانت أطروحة النظام أحادي القطب تبدو أقل إقناعا للعديدين حتى مع صعود وتنامي قوة الولاياتالمتحدة؟ يرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى أن الهدف المطروح قد شهد ان مشاعر الناس قد تشكلت بوضوح خلال الحرب الباردة وخلال وجود قطبين كبيرين، ومن ثم جاء تعريف كروثامرعلى إثر الحرب الباردة لأحادية القطب بوصفها نظاما عالميا ذا قطب واحد ليخلق إحساسا بديهاً لدى الناس بأن عالما بلا قوة عظمى قادر على الاحتفاظ بمركز منافس للولايات المتحدة سوف يكون عالما شديد الاختلاف في ملامح مهمة عما ألفوه. غياب المنافسة ولكن بعد عقد من الزمان فإن ما بدا بارزا بشكل متزايد هو القليل من الغياب للمنافس الذي يتمتع بالندية لأمريكا في مقابل مقاومة عدد من المشكلات الموجودة في العالم التي لم تستطع واشنطن أن تتدبرها بنفسها. كان هذا هوالسياق الذي طرح في إطاره صمويل هانتجتون تعريفه الجديد لأحادية القطب بوصفها نظاما ذا قوة عظمى واحدة وبجانبه قوى صغرى كثيرة دون وجود يذكرلقوى كبرى مهمة ويقرر هانتجتون أن القوة المهيمنة في هذا النظام سوف يكون بمقدورها بمفردها القيام بشكل فعال بحل المشكلات الدولية المهمة ولن يمتلك أي تجمع من الدول من القوة ما يمكنه من منع هذه القوة العظمى من أن تفعل ما هي عازمة عليه ولأن الولاياتالمتحدة في رأيه ليست لديها هذه القدرة فهي بالتالي ليست مؤهلة لذلك. لقد راق للبعض أن يرى في الهجمات الإرهابية التي حدثت الخريف الماضي أمرا معززا لهذه النقطة فهي لم تظهر فحسب تلك الدرجة الملحوظة من انعدام حصانة الولاياتالمتحدة و قلة تحوطها بل أظهرت أيضا نزعة عالمية عميقة مشبعة بالاستياء من الولاياتالمتحدة والمعارضة والمناوئة لها. ففجأة بدا العالم مكانا مهددا بأخطار تكمن في كل ركن وأصبحت اليقظة والتحوط والحرص بشكل دائم ثمنا للحرية ويمكن القول انه حتى مع النجاح الذي صادفته الحملة العسكرية في أفغانستان فإن عدم التحوط من الإرهاب لم يكن له سوى آثار طفيفة على قوة الولاياتالمتحدة في الكثير من الأمور التقليدية. وإذا كان هناك ثمة شيء يمكن الخروج به و الخلوص إليه من ذلك فهو أن رد فعل الولاياتالمتحدة على الهجمات أظهر قدرتها على استعراض القوة في أماكن متعددة حول العالم في وقت واحد كما أظهر قدرتها على ممارسة هذه القوة بمفردها وأن تتحمل بلا عناء يذكر تبعات الإنفاق العسكري والذي وصل إلى ما يربو على 50 بليون دولار. رد الفعل هذا و هذه الاستجابة قد عززت فقط من مكانتها. فإذا لم يؤد هذا السبق الذي تحظى به الولاياتالمتحدة اليوم بتشكيل نظام أحادي القطب فلا شيء بعد ذلك سوف يؤدي إلى تشكيل هذا النظام الدولي. الشيءالوحيد الذي ترك محل نزاع وجدل هو كم من الوقت سوف تستغرقه هذه العملية وما هي الالتزامات التي ستقع على عاتق السياسة الخارجية الأمريكية؟ عناصر القوة الأمريكية وحتى يتسنى لنا أن نتفهم إلى أي مدى تحظى الولاياتالمتحدة بالهيمنة في الوقت الحاضر. فإن الأمر يقتضي منا أن ننظر في كل عنصر من عناصر قوتها الوطنية على التوالي على صعيد الترسانة العسكرية. فإن ما سوف تنفقه الولاياتالمتحدة على التسليح في عام 2003 سوف يزيد ليعادل ما سوف تنفقه أكبر 15 إلى 20دولة مجتمعة وهي الأكبر إنفاقا في هذا المجال كذلك تمتلك الولاياتالمتحدة تفوقا نوويا ساحقا وقوة جوية مهيمنة عالميا وأسطولها هو الأسطول الوحيد الذي يمتلك المياه الزرقاء فعليا وهناك أيضا القدرة الفريدة التي تتمتع بها الولاياتالمتحدة على صعيد ممارسة القوة حول العالم. ولعل التميز العسكري للولايات المتحدة يبدو بشكل أكبر في الكيف وليس في الكم فتقود الولاياتالمتحدة العالم في مجال استغلال التطبيقات الخاصة بتكنولوجيا الاتصال والمعلومات المتقدمة كما تظهر قدرة لا تبارى في تنسيق ومعالجة المعلومات حول ميدان المعركة وتدمير الأهداف عن بعد بدقة رائعة فضلا عن ذلك فإن الولاياتالمتحدة تجعل من الصعب والعسير على الآخرين اللحاق بها ويتأتى ذلك بشكل بدهي من الفجوة الشاسعة في الإنفاق على البحث والتطوير في المجال العسكري الذي تنفق الولاياتالمتحدة عليه ما يزيد ثلاث مرات عما تنفقه القوى الست التي تليها مجتمعة. وإذ نظرنا من جانب آخر فسنجد أن الولاياتالمتحدة تنفق على البحث والتطوير في المجال العسكري أكثر مما تنفق كل من ألمانيا والمملكة المتحدة معا على نفس المجال. ولم يسبق أن شهد التاريخ الحديث أومسرح السياسة الدولية وجود دولة حققت السيادة العسكرية على النحو الذي تطرحه الأرقام السابقة والولاياتالمتحدةمن جانبها لا تشتري هذا التفوق سوى بما قيمته 5 ،3 % من إجمالي دخلها القومي. فكما أشار المؤرخ بول كينيدى : الى أنها تكون رقما واحدا في الإنفاق الضخم هو شيء واحد ولكن أن تكون القوة العظمى الوحيدة في العالم بثمن بخس، فهذا هو الأمر المدهش. إن هيمنة الاقتصاد الأمريكي الحالي - سواء بالنسبة إلى أغنى سبع قوى عالمية بعدها أو بالنسبة إلى بقية دول العالم مجتمعة - يفوق ما أحرزته أي قوة عظمى أخرى في التاريخ الحديث مع استثناء وحيد هو موقعها بعد عام 1945 «عندما دمرت الحرب العالمية الثانية بشكل مؤقت أى اقتصاد كبير آخر » فاقتصاد الولاياتالمتحدة في الوقت الراهن يفوق في حجمه مرتين أقرب منافسيها أي اليابان. إن اقتصاد كاليفورنيا وحدها ارتفع لكي يصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم «في مجال معدلات المبادلات السوقية » قبل فرنسا وبعد المملكة المتحدة. واليوم وعلى العكس من كل ما سبق لا يوجد للولايات المتحدة أي منافس في أي بعد خطير من أبعاد القوة فلم يوجد على الإطلاق نظام دولي تتسيد فيه دولة ما احتوى على دولة واحدة منفردة بمثل هذه الدرجة من القوة وتعد النزعةالحديثة الداعية إلى معادلة القطب الواحد بقوة أخرى لها القدرة على تحقيق النتائج التي تنفرد بها يد واحدة في كل القضايا هو أمر يدعم فقط هذه النقطة. فلم يحدث في أى نظام دولي سابق أن خطر ببال أحد أن يدعو إلى تطبيق هذا المعيار هل تستطيع أن تبقى؟ ومع ذلك فإن الكثيرين ممن يعترفون بمقدار القوة الأمريكية يعتبرون أن النظام ينقض ذاته بالضرورة. فيقولون ان الدول الأخرى سوف تلتئم معا بالشكل المألوف لكبح جماح تلك الهيمنة المحتملة وفي ذلك الوقت لن يكون هناك اختلاف في النظام الدولي وذلك على النحو الذي صاغه المعلق السياسي الألماني جوزيف جوفي في العبارات التالية: كتب التاريخ تذكر أن السيد الكبير دائما ما يستدعى موته، سوف يتآمر أرقام 2و3و4 مكونين تحالفا مساويا له في القوة ويحيكون مؤامرة لسقوطه. حدث ذلك لنابوليون كما حدث للويس السادس عشر، وربما لآل هبسبورج ولهتلر ولستالين. فالقوة تولد قوة مناظرة أكثر تفوقا. تلك هي أقدم قاعدة في السياسة العالمية. ولكن ما أخفقت هذه الأطروحات في إدراكه هو ملامح وسمات الوضع الذي تشغله أمريكا في حقبة ما بعد الحرب الباردة وهو ما يجعلها تتخطى تلك النزعة التاريخية فلكونها محصورة بين محيطين من الشرق ومن الغرب الضعيف وبين القوى الصديقة فى الشمال والجنوب تعد الولاياتالمتحدة أقل تأثرا من غيرها من الطامحين إلى السيادة في الماضي. وكذلك أقل تهديدا للآخرين. في نفس الوقت فإن القوى الرئيسية التي يحتمل أن تتحداها - الصين وروسيا واليابانوألمانيا - والذين يقفون في الموضع المقابل لن يكون بمقدورهم أن يزيدوا من قدراتهم العسكرية لكي تتوازن مع قدرات الولاياتالمتحدة دون أن يصبحوا بشكل متزامن مصدر تهديد لجيرانهم ان أي سياسة حتى السياسة الدولية هي في المحصلة النهائية ذات صبغة محلية، فعلى الرغم من أن القوة الأمريكية تلفت الكثير من الإنتباه على مستوى العالم فإن الدول عادة ما تكون أكثر اهتماما بجيرانها ربما أكثر من اهتمامها بالتوازن العالمى. وإذا أمكن لأحد المتحدين المحتملين أن يشكل خطورة ما على الولاياتالمتحدة فإن جهود التوازن الإقليمي سوف تساعد حتما على احتواءهم كما ستحتويهم القوة الكامنة الهائلة للولايات المتحدة التي يمكن تعبئتها إذا لزم الأمر لمواجهة أى تهديد يظهر. عندما يشير المحللون إلى نموذج تاريخي لتعادل محتمل بين قوى متفوقة فإنهم نادرا ما يلاحظون أن الحالات موضع نقاشهم من قبيل سطوة آل هبسبورج وفرنسا النابليونية والاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة وهلم جرا قد ظهروا و برزوا وهددوا واحتلوا مكانا مركزيا و هيمنوا في واحد أو اثنين فقط من عناصر القوة علاوة على ذلك فإن من يدعون أنهم كانوا مهيمنين كلهم كانوا متخصصين تخصصا يكاد يكون دقيقا في شكل واحد من أشكال القوة مثل القدرة على الاستيلاء على الأرض وكانوا أكثر احتمالا لأن يثيروا فزع الدول الأخرى داخل ائتلاف معادٍ لهذه الهيمنة على العكس من ذلك فإن قدرات الولاياتالمتحدةالأمريكية هي قدرات أكبر نسبيا وأكثر شمولا من الدول التي كانت طامحة للهيمنة في الماضي. فهم يوجدون بأمان بعيدا عن الشاطىء ومن يتوقعون منهم القدرة على إحداث التوازن هم جيران إقليميون قريبون من بعضهم البعض. وهنا كميزة أخرى تتفرد بها الولاياتالمتحدة هي أن قوتها تحت سيطرة حكومة واحدة. بينما نجد أن من يفترض أنهم قادرون على إحداث التوازن سوف يجابهون تحديات كبرى في التصرف جماعيا لتجميع وتنسيق قدراتهم العسكرية. إن التجارب والخبرات التاريخية السابقة لمعادلة القوة تضمنت جماعات من قوى الوضع الراهن تسعى إلى احتواء أحد دعاة التصحيح الناهضين ويكون القائم بإحداث التوازن لديه الكثير مما يخشاه إذا وجد الطامح إلى الهيمنة طريقه ولكن اليوم فإن هيمنة الولاياتالمتحدة هي الواقع الراهن هناك قوى كبرى في النظام الدولي تحالفت مع الولاياتالمتحدة عن قرب وحققت مكاسب جوهرية من أوضاعها تلك وإذا ما حاولت هذه القوى إيجاد التوازن في القوى فإنها بذلك لا تتنازل عن هذه المكاسب فحسب بل سيكون عليهم كذلك أن يشكلوا بطريقة ما تحالفا دائما ومتماسكا في الوقت الذي ترقب أمريكا فيه ذلك. تلك نقطةعلى درجة كبيرة من الأهمية وذلك لانه على الرغم من احتمالية وجود سوابق متعددة لقيام ائتلاف من بين القوى المعادلة لمنع قوة مهيمنة من البروز والصعود إلا أنه لم توجد مجموعة قوى ثانوية اتحدت لإسقاط قوة مهيمنة برزت بالفعل على نحو ما قد يحدث هذه الأيام. وفي النهاية فإن ما تتسم به قوة الولاياتالمتحدة من طبيعة شمولية تشكل أيضا ميزة ضد إنجاح أي محاولة كبرى لإحداث توازن في القوى بل حتى ضد حدوث هذه المحاولة، فالولاياتالمتحدة تجمع بين الضخامة والثراء بينما من يرجح أنهم يتحدونها لا يتمتع أى منهم إلا بإحدى الصفتين فقط. إن الأمرسوف يستغرق جيلا على الأقل بالنسبة للدول الأخرى الكبرى في أيامنا هذه «مثل الصين والهند» لكي تصبح دولا ثرية كما أن التدهور الحادث في معدلات المواليد في الدول الأخرى الغنية يحول بينها وبين أن تصبح دولا تتسم بالضخامة على الأقل نسبيا، فخلال عقد التسعينات زاد عدد سكان الولاياتالمتحدة 7 ،32 مليون نسمة وهو رقم يزيد عن نصف عدد السكان الحاليين لفرنسا أو للمملكة المتحدة. الاتحاد الاوربي قد يدعي البعض أن الاتحاد الأوروبي يشكل استثناء من قاعدة «الضخامة والغنى» هذا صحيح لو قامت بروكسل بتطوير قدرات عسكرية مؤثرة وأحسنت إستغلال القوة الكامن فيها كدولة فإن الاتحاد الأوروبى سوف يشكل بوضوح قطبا آخر بيد أن خلق قوة دفاعية مستقلة و متحدة وقدرات صناعية عسكرية يمكن أن تنافس قدرات الولاياتالمتحدة سوف تكون مهمة ضخمة على الاتحاد. إن الاتحاد الأوروبي يكافح من أجل تجميع قوة رد فعل سريعة تتسم بالقوة قوامها 60 ألفا تكرس للعمليات الصغيرة من قبيل عمليات الإغاثة الإنسانية وحفظ السلام وإدارة الأزمات. إلا أنها مازالت تفتقر إلى قدرات عسكرية جوهرية مثل : قدراتها على تجميع المعلومات الاستخباراتية وخطوط الإمداد الجوي والتصدي لنيران الدفاعات الجوية والتزويد بالوقود جوا من طائرة إلى طائرة والنقل البحري والرعاية الطبية وأبحاث القتال والإنقاذ وحتى إذا امتلك الاتحاد الأوروبي هذه القدرات ربما قبل نهاية هذا العقد فإنه سوف يظل يعتمد على أوامر وسيطرة حلف الناتو وغيره من مالكي القوة. إن الشهامة و التقيد في مواجهة الإغراءات هي العقائد المكونة للحنكة السياسية الناجحة والتي اثبتت قيمتها منذ الدولة اليونانية وبقامة أطول من الدول القائدة في الماضي تتمتع الولاياتالمتحدة بقدر غير مسبوق من الحرية لكي تفعل ما يرضيها يمكنها أن تلعب اللعبة لنفسها وحدها أو للنظام ككل يمكنها أن تركز على العائدات الصغيرة اليوم أو على العائدات الكبيرة غدا إذا كانت الإدارة حقا ترغب في أن تكون محبوبة وفي نفس الوقت تكون مرهوبة الجانب فإنه ليس من الصعب العثور على إجابات لهذه السياسة. هل ستنجح القوة العسكرية الامريكية الهائلة في استمرار سيطرتها على العالم ؟