قضى الله أمره، ولا راد لقضائه. والحمد لله على ما جرى، فقد انتقل إلى رحمة الله تعالى والدنا الشيخ ابراهيم بن حمد المعجل، عن عمر يناهز التسعين عاماً، قضاها محباً ومحبوباً. وودعته الجموع الغفيرة من أبناء وطنه حوطة سدير المقيمين فيها وخارجها، توافدت الناس كل الناس، باكية حزينة تلفها كآبة وأسى وانكسار على فقدان الأب الانسان الصالح «أبو صالح». وغص المسجد الجامع الكبير بالمصلين، ووقفت الصفوف في الرمضاء رافعة أكف الضراعة للمولى عز وجل ان يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يسكنه جنان الفردوس، وأن يقبل عذره، وسارت الركبان حاملة الجثمان الطاهر عبر طرقات بلده الذي أحبه واحتضنه حياً وميتاً لتواريه الثرى في مقبرة ضمت أهله وأحبابه. وانكفت الناس مودعة ابراهيم بن حمد المعجل، أو جامعة الإنسانية، كما هو يستحق هذا اللقب بحق- وانطوت صفحة ذهبية في تاريخ الأخلاق الراقية والعاطفة الجياشة النقية، والإنسانية الفذة، وتبارى الشعراء والشاعرات من أهله وأحبابه يصيغون عبارات الوجد والحزن والحب الصادق للراحل الكبير، ووقفت مشاعري بين تلك الأحداث ململمة أطرافها المتناثرة المتأثرة، فمن أين أبدأ قصة الأبوة؟؟ وهل ترى يمكن ان يوصف الحب؟ أم هل للوفاء تضاريس؟ وهل للأبوة لون؟ بل كيف يقاس الالتصاق مسافة، وكيف يوصف الحب في عبارة. رحمك الله يا والدي. ما كنت أسعى لكتابة هذا الرثاء رغم كونه واجباً عليّ ولشعوري بالقصور دون بلوغ وصفك. ولكن لوعة الفقد وألم الحزن أبت إلا ان ينفثها لساني آهات حرى تشفي نفسي ولا تقوم بحقك. نعم.. إنني أعترف بانكفاءة فكري على عتبة التعبير.. ولكن لا أستطيع التحرر من قيد الفقد العظيم.. والفراغ الكبير. كنت يا سيدي، والدنا وحبيبنا، وما زلت؛ إذ نرى سمات شخصك في سماحة (صالح)، وبِرّ (حمد)، وشهامة (محمد)، ولطف (ناصر)، ووفاء (فهد). فكيف ننسى والامتداد مستمر والغرس يانع، والعطاء وافر. لقد كنت عوض أبي عندما فارقه مكانياً شقيقه ماجد، الذي التصق به عشرات السنين، وكان كما الابن لأبيه براً، والأخ لأخيه وفاءً وحباً.. وعندما شاءت إرادة الله ان يستقر أبي في حوطة سدير، ويبقى شقيقه في الجبيل كنت السلوى، وكنت العضيد، ولا ننسى تلك الاجتماعات في ضحوات الحوطة التي تبدأ في التاسعة تماماً بقرعة معهودة ومفهومة من عصاك على بطن باب مجلس أبي، فيحدث القرع أجمل سمفونية تشنف أسماعنا، فيبادر أبي بالبشر والترحاب وهو في غاية الشوق، كأنك غبت عنه شهراً، وما غيابك إلا سويعات الراحة والنوم.أما والدتي، يحفظها الله والتي تكنّ لك كل الود والاحترام، وتدعو لك في سجودها وهجودها، وتتضرع للمولى ان يتقبل ما دُعي لك، فهي أختك التي تذكر روعة تعاملك ورقي أسلوبك، واستمرارية وفائك. لله درك من إنسان عظيم، انشطر عليك قلب أبي ذات يوم، وهو يسمع قرع ساعته، وعقربها يشير للتاسعة صباحاً، موعد زيارتك اليومي ولقائك الجميل، فنادى على أصغر أبنائه، ليعالج الموقف بأبيات منها: لادقت التسع ساعتنا، ولاجونا مسايير قمت أتطلع وأتفكر والتفت للدروبي وفيك عجزت القصائد ان تنتظم، ولكن هي إشارات دالات على عميق الحب الذي يكنه قلب أبي لك مصوراً تلك الوشائج في قوله: أنا رفيقي لافقدني عنا لي كنه ينادمني على درس وكتاب نسلى بذكرى ماضيات الليالي يوصي به المولود للي في الاصلاب والسلوي في البيت الثاني لها معان ليس أقلها، فلسفة العلاقة الأخوية والاجتماع الدائم في كل ضحوة.. إنه للسلوى، لا للتجارة والمصالح الشخصية، وليس للنيل من أعراض عباد الله، وما قام على الحب في الله دام واستمر، وقد سمعتك وأبي تقولان لي: «نحمد الله على اجتماعنا في هذا المجلس، والباب موصد علينا، فلا نرى أحداً يمر، مما يحمينا من الوقوع في أعراض الناس». وأذكرك عندما استعان أبي بابنه فهد؛ ليدله الطريق المؤدي لمزرعة الوسيطا حيث صديقه الصدوق. فأخذ يداعب ابنه لينسيه تعب المشي على الأقدام، نحسبكما كذلك، ولا نزكي على الله أحدا: يا فهد ودي نسير للوسيطا خلو أم عنيق با لصفح اليميني والمشي عندي على رجلي بسيطا لين أشوف اللي نبيه وهو يبيني وعجز البيت الثاني، فيه ما فيه من الوله والاشتياق التبادل بين قمتين من قمم الأخلاق الإنسانية العالية. وأذكرك.. حين قدر الله على والدي بما أقض مضجعه وأرخص مدمعه، وأزعج مسمعه فأصبحت الدنيا في عينه كثقب الإبرة اتساعاً. وكظلام الليل لوناً. وانكسرت به المروءة في مواقف الرجال. وطاف به الوجع على مواطن الألم. فترك لنا نحن أبناءه وصية ضمنية للرجال الأفذاذ الذين لايكفيهم الوفاء براً. والوصل حباً. فهم ملوك المعروف، وسادة الموقف في حياتنا. فجزاهم على الله. وهم الراحلون عن دنيانا، عبدالعزيز المعجل، وابراهيم بن حمد المعجل، وصالح بن نشاط، وصالح بن نصر الله، وعبدالله أبوهيب، والباقون متع الله حياتهم، سعد المعجل، وفيحان الصوينع. أذكرك ياسيدي ووالدي وأنت واحد من كوكبة طوقت أعناقنا معروفاً، وملكت رقابنا مروءة وشهامة وعطاءً. أذكرك، وأنت الذي علمتني مبادئ التربية، وأسس التعامل الراقي، وأساليب الأخلاق العالية. أذكرك، وأنا أطوف في طرقات حوطة سدير، أذكرك وأنا آمن أو يلفني الخوف، أذكرك في طيف أبي عندما تغيب الصورة ويبقى من أثرها، وجهك الممتلئ بشراً، وجسمك الشامخ، ودفء يدك، وملازمة مصحفك، ولطف عبارتك، وحنان موقفك، ولون عباءتك. أذكرك.. ممازحاً.. مداعباً.. جاداً، تلتوي علينا الصالحين عندما تجنح بنا رياح الزمن، وتأخذنا طاقة وفكر الشباب، فطب مقاماً.. مقام الصالحين، واطمئن. فلن يزيدنا شعورنا بالانهزام لفقدك إلاّ تمسكاً بمبادئ السماحة واللين والهدوء التي تعلمناها منك. رحمك الله، رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، والحمد لله رب العالمين. [email protected]