نشرت «الجزيرة» في عددها الصادر يوم الأحد 28 ربيع الأول المنصرم قصيدة للأديب اللغوي الضَّليع.. الفقيه الشيخ علي بن محمد بن عبدالحق والذي لا يُعرف إلا بكُنيته «أبوتراب الظاهري» - رحمه الله رحمة واسعة -. عنوان القصيدة: «هواتف الضمير» وهو عنوان موفَّق كلَّ التوفيق.. لاحتضانه واستيعابه أطراف التجربة الشعورية التي أراد الشاعر الاندياح فيها وعلى أوسع مدى.. لسكب انفعالاته وتمثلاته لصُبَابةِ ما بقي له من حياة.. وما يستشرفه من عفو الرحيم المنَّان، بعد إدباره عن الحياة الدنيا.. وإقباله على ما بعدها.. هذه القصيدة (الملحمية) تُعتبر القصيدة الأطول في الشعر العربي السعودي حسب علمي وما اطلعت عليه من قراءاتي لقد قاربَتْ المئتين.. وبالتحديد بلغت أبياتها (191). وقد اختار الشاعر لقصيدته الطويلة قافية رَحْبة ومتَّسِعة للكثير من الكلمات التي تخدم قصيدة مطوَّلة كهذه.. وإن كانت تُلجىء شاعرها في أحايين كثيرة إلى قوافٍ غير شاعرية. القافية التي اختارها أبو تراب لقصيدته هي (التاء المكسورة) ولا أدري هل قصد بها معارضة قصيدة (ابن الفارض) الصوفي المشهور..؟ أم أراد بها ما أشرت إليه آنفاً من سعة أفقها وحملها ما لاتحمله قافية أخرى..؟ نستشف من مطلع القصيدة أنه بدأ كتابتها وهو (صائم) لعله صام رمضان الماضي.. سواء كان يشعر بقرب أجله لمرض مدنف.. أم لتحقيق ما يعتمل في نفسه من أوبة وتوبة إلى الله كحال كل مسلم يحاول أن يكون آخر عمره خيراً من أوله. يقول في مطلعها: خلدتُ إلى نفسي لأسكب عَبْرتي فقد آب رشدي في (الصيام) لتوبتي رثيتُ لحالي بعد شيبي وقد جرت عواصف آثام يُشعِْللنَ لمِتّي تحتوي قصيدة الشاعر - للدارس - عدة محاور: * المحور الأول: الندم على ما بدر من زلاَّت وذنوب.. وتقريع النفس في سهوها ولهوها وغفلاتها التي ما كان ينبغي أن تكون. * المحور الثاني: دار حول مكانة والده في العلم والصلاح.. وأمنيته أن يعود لتلك الدروس.. كما أشار إلى أنه كان هو الآخر رجل علم وخطابة ولذلك يقول: أما كنتُ يوماً واعظاً ومحدِّثاً أدرِّس في شتى العلوم بهمَّتي وأخطب من فوق المنابر صيّتاً وأعوادها تهتز من تحت وطأتي أجادلُ أرباب المذاهب بالَّتي أشار بها قرآننا وهو عُدتي وكم من كتاب سطَّرتْه أناملي وكم من طروس عبَّرتْها قريحتي * المحور الثالث: يدور حول القبر إما بنعيمه وإما بعذابه.. وما يأتي بعد ذلك من هول المحشر ومشاهد القيامة التي يشيب لهولها الوليد.. في يوم كان شره مستطيرا. وقد عرض الشاعر نفسه على إحدى الحالتين اللتين لابد منهما: إمَّا عذاب أليم، وإمََّا نعيم مقيم.. واستدعى في هذا المجال حشداً هائلاً مما زخر به القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة التي صوَّرت الإنسان من بداية رحيله من الدنيا وحتى مستقره في إحدى الدارين (فريق في الجنة وفريق في السعير). لكن الشيخ أبا تراب - رحمه الله - لم يرتِّب قصيدته وفق مشاهد الحياة، ثم الموت ثم البرزخ.. ثم القيامة.. بل كان يقدم مشهداً على مشهد.. ويدخل عظته لنفسه عند كل المشاهد..ليوطِّنها على التَّوبة من الذنوب والإقبال على صالح الأعمال.. ولكن التسلسل المرحلي مفقود..! القصيدة (ملحمة) تحتاج إلى دراسة معمّقة، وفق مسارب النفس وموحياتها. رحم الله الشيخ أبا تراب..