ضمن النشاط الثقافي الذي تقيمه إدارة التحرير للشؤون الثقافية «بالجزيرة» أقيمت ندوة ثقافية بعنوان «المقاومة الثقافية أو ثقافة المقاومة» شارك فيها: د. عبدالله العتيبي قسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود، د. حسين المناصرة قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود. وأدار الندوة د. سعد البازعي. وقد تعرضت الندوة لبعض المحاور المهمة في هذا المجال مثل تعريف ثقافة المقاومة وتقاطعها مع أدب المقاومة، ومفهوم الانتفاضة، والهوية الثقافية. وقد أكد المشاركون في الندوة على أن للأفكار المطروحة تداخلات كثيرة وأيضا اشكالياتها معقدة لأن المسألة الأساسية في ثقافة المقاومة هي العلاقة مع الوجود الإسرائيلي. * د. البازعي: يسرني أن أبدأ هذا اللقاء وكلكم بلا شك تشعرون بأهمية طرح هذا الموضوع في هذه الظروف حيث اننا مهمومون جميعاً بالوضع في العالم العربي وما يعيشه إخوتنا الفلسطينيون مما يمنح الحديث حول الموضوع المقترح لهذه الليلة مغزى خاصاً. وكما تلاحظون من عنوان الموضوع، فهو ذو طابع ثقافي من حيث انه يحاول أن ينظر في الصلة بين الوضع السياسي النضالي وما يتصل بذلك الوضع من ثقافة. ثقافة المقاومة أو المقاومة الثقافية مفهوم قد لا يكون مطروحاً بشكل واسع لأننا اعتدنا أن نقرأ عن أدب المقاومة ولا سيما في دراستنا للأدب العربي الحديث وتحديداً فيما يتصل بالأدب العربي الفلسطيني الذي أخذ في التبلور منذ حرب 1948م ليعبر عن هموم الإنسان الفلسطيني بشكل خاص والعربي والمسلم بشكل عام، هذا الموضوع أدب المقاومة صار موضوعاً رئيساً أو مطروحاً بشكل عام على المستوى النظري والتطبيقي في بعض الدراسات في مرحلة السبعينيات تقريباً. ومن الكتب التي ظهرت في تلك المرحلة كتاب غالي شكري «أدب المقاومة» وهو دراسة موسعة نسبياً، لكنها لم تكن مقتصرة على الوضع في العالم العربي أو الأدب الفلسطيني تحديداً وإنما شملت أشكالاً مختلفة من أدب المقاومة وظهر أيضا في فترة لاحقة كتاب باللغة الإنجليزية لإحدى الباحثات التي كانت مقيمة في مصر هي بربرا هارلو وعنوانه أيضا «أدب المقاومة» . هذه الكتب مؤشرات على التنامي والاهتمام الفكري والعلمي والإبداعي بهذا الجانب من تشكل الثقافة في سياق المقاومة، فما المقصود بالمقاومة هنا؟ هذا من الأسئلة التي لا بد من طرحها في هذا السياق من حيث ان ثقافة المقاومة امتداد لأدب المقاومة على أساس أن مفهوم الأدب أيضا يمكن أن يتسع أكثر ليشمل ليس الأدب بالمعنى الضيق للرواية والشعر والمسرح والقصة وإنما أن ينظر إليه بالمعنى القديم. فالأدب بمفهومة القديم هو ما نسميه الآن ثقافة، وكان الأديب هو من نسميه الآن المثقف. فإذا فهمنا أدب المقاومة على هذا الأساس فإننا نشير إلى ثقافة المقاومة بشكل أو بآخر، وهنا في هذه المنصة اثنان من الإخوة من ذوي الاهتمام بهذه القضية سواء من الناحية الأكاديمية، أو من الناحية الإنسانية وأعتقد أننا كلنا مهتمون بهذه القضية بشكل أو بآخر. يؤسفني أن لا يشاركنا الأستاذ محمد رضا نصر الله الذي اتصل هذا الصباح معتذراً لاضطراره للسفر خارج المملكة لمناسبة كان من الصعب عليه أن لا يحضرها ولكني أعتقد أن في الزميلين الكريمين د. عبدالله العتيبي ود. حسين المناصرة وفيكم أيضا كحضور مميز الكفاية لتناول هذا الموضوع والمشاركة في صياغة الرأي أو جملة الآراء التي يمكن أن نخرج بها. وأود أن أكرر التقدير لمؤسسة «الجزيرة» لاحتضانها هذا النشاط الثقافي المختلف عما يطرح في الساحة المحلية حيث ان الثقافة هنا على مستوى الصحيفة تدخل إطار الميدان والمشاركة العامة بدلا من أن تكون مجرد نصوص ومقالات. موضوع ثقافة المقاومة أو المقاومة الثقافية يقوم على عدة عناصر سنتحدث عنها بالتدريج وإن كان من الصعب طبعا كالعادة أن نضبط مسألة الانتقال لأن الحديث عن المفاهيم يجرنا للحديث عن البدايات والبدايات تجرنا إلى الأشكال، ولكن سيكون من مهامي كمدير للحوار أن أحاول قدر الإمكان أن أجعله منظماً بحيث يمكن أن نصل إلى درجة عالية من الوضوح. العنصر الأول الذي هو موضوع المفهوم يطرح التساؤل: ماذا نقصد بمفهوم «المقاومة الثقافية»؟ ومن الواضح أن عندنا هنا عنصرين، عنصر المقاومة وعنصر الثقافة، طبعا يمكن أن نغرق بسهولة في مسألة تعريف الثقافة، لأن هذا موضوع هائل، ولا أود أن ندخل في تفاصيله كثيراً، لكن لو حصرنا أنفسنا في مفهوم الثقافة في سياق المقاومة فإن السؤال يكون: ما الذي يمكن أن نفهمه من الثقافة إذا طرحت في هذا السياق تحديدا؟ أود في هذا السياق أن أطلب من د. عبد الله العتيبي وهو مختص بالعلوم السياسية ما يزال قريب الصلة بالبحث المنهجي الميداني أن يساعدنا في إضاءة مفهوم المقاومة الثقافية بالشكل الذي يراه مناسباً. * د. العتيبي: مثلما تفضل د. سعد فالثقافة من أكثر المفاهيم تعقيدا إذا حاولنا تعريفها بشكل واضح ومحدد فكل شيء يدخل في الثقافة سواء الممارسات اليومية على المستوى الفردي بدءاً من اللبس والمأكل والمشرب وانتهاء بحمل السلاح، كلها داخلة في إطار الثقافة. إذا تكلمنا عن المقاومة الثقافية بالمعنى الواسع للمقاومة الثقافية وأردنا ربطها بما هو حاصل في فلسطين الآن فالثقافة في نظري هي الإطار العام لما يحصل في فلسطين، وما يحصل في فلسطين ليس مقاومة ثقافية بالمعنى الموجود في كلمة ثقافة أو التاريخ المحدد بثقافة وإنما هي حرب بكل معنى الكلمة، والثقافة رافد من روافد هذه الحرب. الدعوة للمقاومة الثقافية هي الدعوة لقيام مقاومة رأس حربتها الثقافة أو مصدر التسليح فيها الثقافة بمعنى أنها المقاومة التي تضع حدّاً للانهيار والانهزام في الطرف المقاوم وفي معنوية الطرف المقاوم سواء على المستوى العربي أو على المستوى الفلسطيني. اللجوء إلى الثقافة والى المقاومة انطلاقاً من الثقافة أمر مشروع ومنطقي وتاريخي ومجرّب على المستوى العالمي بمعنى أن المقاومة الثقافية تهدف إلى خلق الوعي الذي يبدد الجهل والوعي هذا يخلق أو يولد مناخاً روحياً يعزز في الفرد الإرادة ويعزز فيه الثقة ويمكنه من الاستمرار في المقاومة، وهنا أود أن أؤكد نظرتي لما هو حاصل الآن فهو ليس مقاومة ثقافية بالمعنى الحرفي للمقاومة الثقافية وإنما هي حرب أيضا، هي ليست انتفاضة بمعنى كلمة « انتفاضة» ولا أعرف السبب في ذلك، قد يكون السبب سياسياً أو قد يكون غير ذلك، أقصد السبب وراء الإصرار على استخدام كلمة «انتفاضة» ، ونحن نعرف أن الانتفاضة تحدث في السجون والمعتقلات أو التجمعات، حتى المدنية ولكن ما يحدث في فلسطين هو حرب بكل معنى الكلمة وقد يكون الإصرار على هذا المصطلح هو أنه يخدم مصالح الطرفين، و للأسف فقد أسقطت صفة الإرهاب على ما يحصل في فلسطين فأصبح الطرف المقاوم طرفاً إرهابياً وأصبح الطرف المحتل طرفاً يدافع عن حقه في الوجود، لأن عكس المعادلة هو الصحيح، وحتى وإن كان سلاح أحد الطرفين هو الحجارة، فهو في حالة حرب، ودائما إذا استنزفت الأسلحة يلجأ الطرف المقاوم إلى ما لديه من أسلحة حتى وإن كانت حجارة. أيضا قد يقول البعض ان السبب وراء الإصرار على استخدام كلمة «انتفاضة» أنها قد تحرر البعض من تبعات والتزامات الحرب سواء كان الطرف عربياً أو دولياً وبهذا يترك الفلسطينيون لحالهم فكل شيء يدخل في الثقافة، والثقافة تنشط وتستخدم في الحرب بكل معانيها سواء ممارساتها اليومية على المستوى الفردي أو في الأدب أو في اللغة أو غيرها، فعندما نتحدث عن مقاومة ثقافية فإننا باختصار نتحدث عن دور العقل وعن دور المثقف وعن دور الوجدان وعن دور الوعي وعن دور العلم، ولو أردنا أن نعرّفها تعريفاً محدداً فسنتحدث عن دور الكلمة ودور الإبداع في مقاومة هذا المعتدي القوي دفاعاً عن الحياة والحق ودفاعاً عن الكرامة، فالمقاومة الثقافية ما هي إلا رافد من روافد الحرب الشاملة بالمعنى السياسي للحرب. * د. المناصرة: شكرا لمؤسسة الجزيرة ود. البازعي في الحقيقة أنه عندما وصلتني هذه الورقة خفت أن تكون هناك إشكالية في العلاقة ما بين المفاهيم: ثقافة المقاومة أو مقاومة الثقافة وكان في ذهني لماذا لم يطرح د. سعد البازعي منذ البداية مصطلحاً يحدد المقاومة على اعتبار أنه منذ الستينيات كانت الحداثة تتناول أدب المقاومة الفلسطينية وتعتبره نوعاً من أنواع الوثيقة غير الأدبية، فتسميه المعركة وبالتالي تسقط عليه جزءاً من الكتابة غير الإبداعية. تمثل ثقافة الحداثة في ظننا بنوع من أنواع الانقطاع أو ضعف التواصل مع المتلقي، لذلك كان هناك مبدأ أساسي في الأدب كالأدب الفلسطيني يؤكد على التواصل فعندما كتب غسان كنفاني رواية «ما تبقى لكم» متأثراً بالكاتب الأمريكي فوكنر ظلت روايته دون أن يقرأها الكثيرون وإن أعجب بها النقاد، لكن الناس لم يقرأوها لذلك كتب رواية أخرى هي «أم سعد» وقرأتها الجماهير وأصبحت رواية «أم سعد» هي الرواية الأولى لما يمكن أن نسميه الثقافة الجماهيرية، ومن هنا اختلف مع د. عبد الله لأن الانتفاضة ليست مصطلحاً موجوداً في الكتب أو أنها مصطلح أوجده الناس، من هنا تصبح الثقافة بمفهوم إبداعي وحتى بمفهوم حياتي ملتصقة كثيرا بما يمكن أن نسميه إنتاج الهوية، هوية المجتمع التي يجب أن تكون هوية إنتاجية سواء كانت ذات أولوية على مستوى وسائل الحياة المختلفة أو على مستوى الإبداع، بمعنى أن كثيرا من هوياتنا الثقافية مثلا هي هويات استهلاكية. لماذا لا يكون هناك ما يمكن أن نسميه الثقافة المقاومة، مما يجعل كلمة «المقاومة» من وجهة نظري لا يمكن أن تصلح لتكون وصفاً للثقافة على اعتبار كما ذكرنا أن الثقافة هي تعريف للحياة هي المجتمع هي الشخصية بكل فرادتها وجماعيتها، ومن هنا كان من الضروري خلال القرن العشرين أو حتى القرن الواحد والعشرين أن تبدأ الحياة العربية على هذا المستوى تطرح مفهوم العلاقة مع الآخر. يعني كيف يكون شكل هذه العلاقة مع الآخر؟ هل هي شكل مؤثر؟ أم شكل انحيازي استقطاب اللذات وبالتالي عدم التفعيل للشخصية العربية في التفاعل مع الآخر، الحياة كلها صراع، ولذلك أسمّي الثقافة عالماً من الصراع طبعا الصراع الإيجابي وليس الصراع السلبي. هي حالة من التأثر بالآخر أيضا وحالة من عدم التأثر بالآخر يعني على سبيل المثال يجب أن تشتري من الآخر سلعة إذا كانت هذه السلعة موجودة من إنتاجك ويجب أن نقنع الإنسان عندنا أن هذه السلعة جزء من ثقافتنا أي جزء من وجودنا وحتى إن كانت هذه السلعة خفيفة جدا وغير مؤثرة ومن هنا يبدو من وجهة نظري أن مصطلح الثقافة يصبح مصطلحاً استراتيجياً إذا وضعناه في دائرة المقاومة. * د. البازعي: أعتقد أن في هذا إضاءة جيدة، ولكن ماذا لو طرحنا هذا الموضوع في سياق المقارنة؟ فكأن الحديث ظل منحصرا في الوضع في ما يحدث في فلسطين ولا شك أنه أكثر إلحاحاً ويهمنا يشكل مباشر، لكن مثلا عندما يطرح غالي شكري «أدب المقاومة» فإنه يطرحها في سياق عالمي إلى حد كبير، وينظر إلى تجربة أمريكا الجنوبية وتجربة آسيا وتجارب كثيرة أخرى وأعتقد أنه مما يغني مصطلح «ثقافة المقاومة» أن ننظر إليها في هذا السياق المقارن بحيث أننا نرى الاختلافات وأوجه التشابه في حال وجودها وهي لا شك موجودة في الحالتين، ولو تذكرنا مثلا الجزائر في الخمسينيات والستينيات أو في مرحلة الاستعمار كواحد من الأمثلة التي يمكن أن تطرح حول تشكل الثقافة أو الوضع الثقافي نتيجة للمقاومة الفرنسية. هذا واحد من الأمثلة طبعا ويمكن أن نتحدث عن دول أخرى كثيرة والسياق مفتوح فهل يمكننا أن نستحضر شيئا من هذا يا د. عبد الله؟ يعني نماذج عالمية وعربية في سياق ينتظم الثقافة والمقاومة في نفس الوقت. * د. العتيبي: إذا أردنا أن نستحضر بعض التجارب العالمية يجب أن نستحضرها في إطار ما هو حاصل الآن. هنا أعود إلى مصطلح «الانتفاضة» السابق، والسبب في رفضي لمصطلح «الانتفاضة» أنه مصطلح مليء بالأخلاقيات والزخم والوجدان والعاطفة ولكنه مجرد من محتواه السياسي. المقاومة الفلسطينية بدأت في 1948م والانتفاضة بدأت من سنوات محدودة، المقاومة الفلسطينية تكاد تكون تجربة فريدة من نوعها وتكاد تكون التجربة الوحيدة التي قامت على احتلال وطن كامل وإلغاء الهوية الثقافية والتاريخية والحق التاريخي للشعب الفلسطيني فعندما نتكلم عن المقاومة التاريخية البعض يسوق التجربة الفرنسية الألمانية، احتلال الألمان لفرنسا حدث في ظروف معينة أي أن ألمانيا احتلت فرنسا وتمكنت الحكومة الفرنسية وهي حكومة الظل في ذلك الوقت وحكومة المنفى مدعومة من الحلفاء من تحرير فرنسا، وحقيقة هي لم تحرر فرنسا وإنما حررتها دول الحلفاء. بينما الوضع في فلسطين يختلف فلدى شعب أعزل قد يكون سلاح الثقافة هو السلاح الوحيد الذي في يده وأخيرا سلاح الحجر الذي سمّي مجازاً بالانتفاضة وإنما هي حقيقة حرب كل العالم الآن يقف ضد هذا الشعب بما فيهم أحياناً أبناء جلدته الذين وجدوا في مصطلح «الانتفاضة» مخرجاً لهم ولذا فهم لا يتحرجون في إقامة الهدنة هنا وهناك والعلاقات الجانبية مع الكيان الآخر، فمن ناحية تاريخية قلتم ان اللجوء إلى الثقافة أمر تاريخي ومجرّب ولكن المقارنة التاريخية غير واردة في حالة الشعب الفلسطيني لأنه حالة فريدة من نوعها، ففرنسا تختلف عن فلسطينوألمانيا تختلف عن اسرائيل، لا شك أن التجارب التاريخية في فرنسا وفي الجزائر وفي غيرها قد تفيد في حالة التركيز مثلا على الفرنسيين والجزائريين وعلى الوعي بالذات وبالحق وبالكرامة وتكريس هذا في الأدب وفي اللغة والمناهج، ولكن هنا يجب على ثقافة المقاومة أن يكون منهجها منهجاً علمياً بمعنى أنها تحدد نوعية الإنسان الذي تريده والمجتمع الذي تريده وبالتالي تحدد المناهج والوسائل والطرق التي تتبعها، فالمقارنة المنهجية أو المرجعية التاريخية بخصوص مصطلح المقاومة لا أعتقد أنها واردة بالمعنى الدقيق للمقاومة. * د. البازعي: يمكن أنه غير وارد فيما يتصل بالفرنسي الألماني لكن في حالة الجزائر أعتقد أن سنوات طويلة من المقاومة والأرضية الثقافية المشتركة تبرر المقارنة طبعا طرحنا يتركز على الجانب الثقافي، كيف تأثر الأدب، كيف تأثرت اللغة، كيف تأثرت الأزياء، كيف تأثر المأكل بهذه المقاومة؟ أحياناً تكون المقاومة مثل ما قال د. حسين المناصرة، تكون رفضا لما هو قائم وإحلال المحلي والوطني محل ذلك القادم، وتكون المقاومة أحياناً بشكل رمزي وبسيط طالما أنك ترفض كل ما يأتي به المحتل أو كل ما يأتي به المستعمر أو كل ما يأتي به العدو بوصفه عدواً لتثبت مقاومة الذات أصلا، ولنتأمل مصطلح «العصيان المدني» وأعتقد أن أول من استخدمه الكاتب الأمريكي ثورو Thoreau في القرن التاسع عشر ثم انتقل إلى غاندي وصار متداولا فأنا أعتقد أن العصيان المدني شكل من أشكال المقاومة، لكن المقاومة الصامتة الإيجابية نوع من الصراع الإيجابي ولكنها أكثر هدوءاً من المقاومة في الشارع سواء اتخذت شكل السلاح المباشر أو شكل الحجر. يبدو لي أنه من الممكن قراءة أو دراسة المقاومة الثقافية في هذا الإطار المقارن، فهل هناك ما تريد أن تضيفه إلى هذه النقطة يا د. حسين. * د. المناصرة: بشكل عام التاريخ البشري فيه صفحات بيضاء كما أن فيه مجالا للصراعات، غير أنه في النهاية لا بد أن ينتصر صاحب الحق لأنه هو الذي يمتلك أرضية المقاومة وهو الذي يمتلك أرضية الثقافة الأصيلة، ودائما جيوش الغزو والاستعمار تمتلك ما يمكن أن نسميه الخوف، يعني أذكر على سبيل المثال أن واحداً من اليهود العراقيين عندما تحدث في التلفاز فقال نحن من نحتاج إلى السلام مع العرب. لأننا نحن الآن في قارب وهذا القارب يسير في البحر إذا بدا هذا البحر هادئاً الآن فإنه لا بد أن يهيج في يوم من الأيام ويغرق هذا القارب، ويبدو لي هذا نموذج لما يجري في فلسطين، وهو نموذج لم يسبق له مثيل لسبب بسيط لأن الوجود الصهيوني وجود استيطاني يعني وجود يقول أنا سأبقى هنا وأجتث ما هو موجود بأي طريقة ومع ذلك فمما أثبتته الفترة الأخيرة أن الهجرات لم تكن كما توقع شارون، أي كما كان في 1967م. فالذي اتضح أن الناس يفضلون أن يدفنوا في الأرض وهذا جزء من المقاومة في رأيي، يعني الثبات على الأرض يعتبر جزءاً أساسياً من المقاومة، التمسك بالثقافة يعتبر جزءاً أصيلاً من المقاومة. ومقاطعة المنتج الصهيوني جزء من المقاومة، ويبدو أن النموذج الجزائري أيضا نموذج مهم جدا. وفي عصر الحروب الصليبية نجد نموذجاً مهماً آخر. وفي عهد التتار مثلا وصل الوضع إلى أن التتري يأتي ويجمع خمسين شخصاً ويقول انتظروا سأذهب لآتي بسلاح حتى أقتلكم وينتظرون إلى أن أتى شخص وقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: ننتظر لأنه ذهب، قال: الله أكبر، اهجموا عليه قد يقتل منكم ثلاثة أو أربعة ولكن في النهاية ستقتلونه، وفعلا صار ذلك أسلوباً من أساليب المقاومة لأن الغازي هو الظالم والمعتدي وبالتالي لا شك أن صاحب الحق هو صاحب القوة وبالتالي صاحب المبدأ. * د. البازعي: عندما نتحدث عن المقاومة نتحدث من زاوية الضحية لا نتحدث من زاوية القوي، فالذي يقاوم هو دائما المهدد إن لم يكن المعتدى عليه بشكل مباشر أو المنتهكة حقوقه فهو الذي يقاوم لكن المقاومة تأخذ كما ذكر أشكالاً مختلفة وكثيرة، أعتقد أننا نمارس المقاومة حتى بشكل يومي إذا أردت أن تتوسع بالمفهوم، أن أختار كتاباً بدلاً من كتاب آخر أو مفهوماً بدلا من مفهوم آخر أو فكرة بدلاً من فكرة أخرى، كل هذه أشكال من المقاومة. لكننا هنا نحاول أن ننتقل بالنقاش إلى مستوى الأحداث الجارية وليس على المستوى النظري الواسع. أشرت يا د. حسين إلى نماذج من الأدب الفلسطيني، غسان كنفاني مثلا، وأشرت إلى نوعين من الإبداع لدى كنفاني أحدها تجريبي لم يلق رواجاً بينما عندما كتب عن القضية نفسها وعن هموم الناس في «أم سعد» كما ذكرت وجد قبولاً. لكن بالإضافة إلى كنفاني نجد في إطار المقاومة الثقافية الفلسطينية نماذج كثيرة أخرى مثل توفيق زياد وسميح القاسم وغيرهما، لكن هل كانت هذه المقاومة محصورة في الأدب القولي أو الشفاهي والمكتوب؟ أم أن هناك في المقاومة الثقافية الفلسطينية أشكال أخرى؟ وبتعبير آخر ما هو دور الفنون الأخرى أو الأشكال الثقافية الأخرى؟ هل يمكن أن نتحدث عن هيئات مختلفة من المقاومة الثقافية كالعمارة والمسرح؟ هل من الممكن التحدث عن المقاومة الثقافية الفلسطينية بهذا المفهوم الواسع أو أننا نتحدث فقط عن قصائد وأعمال أدبية مثل روايات وغيرها؟ * د. المناصرة: بكل تأكيد إذا عدنا إلى الأدب في داخل الأرض المحتلة فسنجد توجهاً لحركة المسرح مثلا فهناك تضييق عجيب جدا على حركة المسرح أو الخطاب المسرحي والسبب هو أن الخطاب المسرحي خطاب مباشر بمعنى أنه خطاب متوجه من خلال التفاعل مع الجمهور ومن هنا جاء التضييق، وأحياناً الاعتقالات لمن ينشطون في هذا المسرح، وتمنع عروض المسرحيات. فلو ذهبت إلى القدس لن تجد مسرحاً. أما الزي الفلسطيني ففي أي معرض للزي الفلسطيني في أوروبا وفي غيرها يحاول اليهود قدر الإمكان أن يسرقوا هذا الزي إلى حد أنهم لبّسوا المضيفات في الطيران الزي الفلسطيني على اعتبار أنه زي يخص اليهود وليس له علاقة بالفلسطينيين. كما أن هناك خطاب الأكلات الشعبية، فقد حاول اليهود أن يقيموا في أوروبا وأمريكا مطاعم تقوم على الأكلات الشعبية الفلسطينية كالمنسف وادعوا أن هذه كانت أكلات يهودية. لقد سرقوا حتى النكتة .. لقد كتب أحدهم مرة انه يستغرب أن يكون اليهود على هذا المستوى من الكم من الضحك. ففي مكتبة الكونجرس خمسون كتاباً عن النكت الاسرائيلية، لقد سرقوا كل النكت العربية وحوّلوها إلى نكت اسرائيلية. تصور أنه هناك ما يمكن أن نسمّيه الحفريات أذكر أنه عندنا قطعة أرض ظلوا ثلاثة أيام وهم يحفرون لأنه وصلتهم معلومات أن هناك آثاراً في الأرض. إنهم يغيرون الآثار العربية ويسرقون اللوحات ويغيّرونها بطريقة عجيبة حتى لا تبدو ذات علاقة بالكنعانيين أو بالعرب. هذه مسألة سياسية. اليهود هناك في حرب وبالذات في مجال الآثار وفي مجال الزي وفي مجال الأكلات الشعبية، هناك حرب على ما يمكن أن نسميه الثقافة العربية في المنطقة ولذا فهم يقنعون الآخر الغربي بأنهم أصحاب الحضارة وأن وجودهم كان قبل العرب علما بأن الثقافة العربية تمتد من الجزيرة العربية إلى جبال طوروس عند تركيا وتمتد إلى حدود إيران في الفرات. * د. البازعي: أشرت إلى أننا عندما نتحدث عن المقاومة فإننا نشير إلى الضحية بوصفه المقاوم، والواقع أن اليهود كما يوضح تاريخهم عاشوا ألواناً من الاضطهاد ومن الرفض حيثما كانوا لقد ظهر مفهوم الجيتو مع اليهود عندما دخلوا إلى المجتمعات الأوروبية وعزلوا فكانوا يقاومون ليحتفظوا بهويتهم وبوجودهم من خلال التمسك بكتبهم المقدسة وهذا شكل من أشكال المقاومة. عندما صاروا هم محتلين ومعتدين بدأوا يمارسون ما مارسه عليهم أعداؤهم السابقون كما أشار د. حسين المناصرة حيث تحدث عن محاولة اليهود تغيير الواقع الثقافي في فلسطين بحيث يكون في صالح اليهود. إن اليهود على الرغم من سيطرتهم العسكرية الهائلة فإنهم من الناحية الحضارية في الطرف المقاوم كما يبدو لي. فالواقع العربي المحيط بهم، وعلى الرغم من ضعفه العسكري والسياسي، فهو ليس بنفس الضعف على المستوى الحضاري. لذا تبدو لي محاولة تغيير الواقع وكأنها نقطة ضعف من جانب اليهود أنفسهم في محاولة للتمسك بأقل ما يمكن التمسك به لإثبات هذه الهوية المهددة بشكل يومي، فمهما هُدّد الفلسطينيون يظلون أيضا جزءاً من التشكيل الحضاري العربي الإسلامي الذي يحميهم ويمنحهم الانتماء حتى وإن فقدوا أجزاء منه في الأرض الفلسطينية . لا أدري إن كان د. عبد الله العتيبي يود أن يقول شيئاً حول هذا الموضوع. * د. العتيبي: أتفق معك في أنهم أيضا عندما يأتي الأمر إلى تزوير التاريخ هم أيضا مقاومون ولكن أيضا هذه سمة أو خاصية تميز الشعوب المقتطعة عموما، فاسرائيل أو الشعب الاسرائيلي شعب مقتطع وطارئ حتى على الخارطة نفسها هم طارئون ومن ثم تصبح العملية ممارسة طبيعية أو استراتيجية طبيعية لا يغفلها لا الاسرائيليون ولا غيرهم، وتعود إلى مزاعمهم في محاولة كسب الشرعية في فلسطين وأن القضية ليست قضية طارئة كما يعتقد البعض لأن القضية لا تنحصر في الفترة من 1948م إلى الآن وإنما تمتد أو تبدأ في أعماق التاريخ وتصل كما تفضل د. حسين إلى درجة تزوير التاريخ وتزوير بعض الآثار بطريقة وتقنية عجيبة جدا تجعل من الصعب اكتشافها، فالمقاومة هي كما تفضل د. سعد لها جانبان جانب الطرف المقاوِم والطرف المقاوَم وأحياناً قد تنقلب المعادلة ولكن ما يميز المقاومة عن غيرها من الممارسات الأخرى أنها عملية مستمرة لا تنتهي بانتهاء حرب ولا تنتهي بمعاهدة سلام ولا تنتهي بأي شكل من أشكال الاستقرار في المنطقة فضمانة وجود اسرائيل هو ضمانة وجود ما يدعم حربها وشرعيتها في الوجود سواء في التاريخ أو في المأكل أو في الملبس أو في الأدب أو في الفنون وغيرها وبالتالي أعتقد أنه من الأمر الطبيعي على شعب مثل الشعب الاسرائيلي أو دولة مثل دولة اسرائيل دولة طارئة على الخارطة نفسها، انها تمارس مثل هذه الممارسات وهذا ما يجعل المقاومة تستمر حتى وإن انتهت الحرب في فلسطين. * د. البازعي: أعتقد أن هذه النقطة الأخيرة نقطة مهمة لأن المقاومة التي يخوضها الشعب الفلسطيني جزء من مقاومة حضارية أشمل فهي جزء من الصراع الحضاري العربي الغربي إذا أردت وكما أشار د. عبد الله حسين يتحدث عن مجتمع طارئ مقتطع، ولكن ممّ هو مقتطع؟! مقتطع من التكوين الحضاري الغربي وذلك يعني مقاومة اسرائيل لبعض وجوه الحضارة الغربية وليس طبعاً كل الحضارة الغربية لكن بعض وجوهها، الوجه المهيمن، الوجه المعتدي، الذي يريد أن يفرض نموذجاً معيناً على كل الشعوب ليغرّبها أو ليعطيها سمات واحدة وهو ما نعرفه الآن بالعولمة. فإذن يمكن أن نقول ان المقاومة الثقافية قد تسمى أيضا مقاومة عولمة بشكل أو بآخر فعندما يغضب الناس من المطاعم التي تقدم الأكل السريع فإن ذلك شكل من أشكال المقاومة الثقافية، ومن الملاحظ أنه في الأحداث الأخيرة بدأ الناس يربطون رأساً سلاسل المطاعم وغيرها من السلاسل التجارية التي جاءت من الولاياتالمتحدة أو من أوروبا وبين ما يحدث في فلسطين فكأن هناك ارتباط قوي في الوجدان والعقلية العربية بين هذه كلها. إذن من الممكن أن نقول ان العولمة أيضا شكل من أشكال الهيمنة التي تقاوم بشكل أو بآخر. النقطة الأخيرة ربما تتعلق بمستقبل المقاومة الثقافية يعني ما الذي يمكن أن نتوقعه؟ما هو النجاح الذي تحققه هذه المقاومة؟ سواء من الشواهد التاريخية أو من استقرار الواقع الماثل أمامنا. * د. المناصرة: دعني أولا أعلق على مسألة العولمة لأنها مسألة ايجابية في إطار الوسائل والمنتجات والفضائيات والاتصالات وفي إطار التكنولوجيا ولكني أظن أن العولمة تصبح مسألة خطيرة وغير مقبولة في إطار الأفكار فللأمم أفكارها وأيديولوجياتها هذه مسألة. المسألة الأخرى مسألة أن اسرائيل كأنها مقتطعة من التكوين الحضاري الغربي فهذا ترفضه اسرائيل نفسها .. لماذا؟ لأنها لا تريد أن ينظر إليها بهذا الشكل. لقد حاول الغرب أن يتخلص من اسرائيل لأن اليهود بعد الحرب العالمية الأولى بدأوا يشكلون وجوداً خطيراً وبالتالي كانوا يسببون مشكلات لذلك هم فعلا تخلصوا من هذا الوجود الذي صار عبئاً على الحضارة الإنسانية. ما يقوم به الآن شارون هذا يؤيده حوالي 75% من الاسرائيلين. المسألة الأخرى التي هي مسألة الصراع وفي رأيي أن الصراع مع اسرائيل صراع وجودي، وهذه مسألة أساسية لأن اسرائيل لا يمكن أن تقبل أن يكون الصراع صراعا عادياً. خبراء اسرائيل يقولون: في حالة التوصل إلى سلام ستنتهي اسرائيل. فاسرائيل دولة وجدت لتكون في حالة حرب، وفي حالة توسع. لكن الحقيقة هي أن اسرائيل لا تستطيع أن تتوسع، لا تستطيع أن تضم رام الله والخليل ونابلس لماذا؟ لأنه في حالة ضمها ستسبب عليها عبئا كثيرا يقتل التوازنات داخلها . من ناحية أخرى يقال ان اسرائيل تريد أن تتوسع من النيل إلى الفرات وهذه أكذوبة تاريخية لأن اسرائيل في حالة توسعها ستنتهار واسرائيل لا شك أنها نبت زمن محدد هذا الزمن المحدد لا بد أن ينتهي بكل تأكيد ولن يكون هناك وجود اسرائيلي من الناحية العملية. وما سيحدث هو أنهم سيخيرون بين أن يعيشوا في فلسطين أو الرجوع إلى أصول عربية مثل يهود العراق واليمن والمغرب فهؤلاء من العرب. فالفترة الصهيونية هي التي أفسدت على اليهود لأنه طيلة التاريخ البشري تجد أن اليهود عاشوا في الوجود العربي بسلام وبأمان وبالعكس كان لهم وظائف مميزة، لكن الفترة الصهيونية هي التي خلقت هذا الوجود الذي سبب أزمة طبعا ساعدت عليها أوروبا بكل تأكيد لأن الصراع لدينا ليس صراعاً مع أوروبا أو أمريكا، الصراع هو في الحقيقة مع السياسات التي تدعم هذا الوجود. والمشكلة أن هناك هيمنة على الإعلام وعلى الاقتصاد، أي هيمنة صهيونية وهذه لا بد أن تنكشف في المستقبل وهو ما يجب أن نؤمن به. المستقبل هو أن المنطقة ذات ثقافة واحدة هي الثقافة العربية سواء شاءت اسرائيل أم لم تشأ، وهذه مسألة تاريخية والمنطقة لا تتحمل زرع وجود ثقافي مركب مختلف، حتى ولو أكدت اسرائيل أن عندها 2000 قنبلة نووية. إذن في النهاية سيسمح لليهود بأن يعيشوا في هذه المجتمعات لكن ليس على مستوى كيان عنصري استحواذي يسعى لتخريب المنطقة. * د. العتيبي: لدي تعليق على قضية كون اسرائيل جزءاً من الثقافة الغربية هذه حقيقة واقعة ولكن أيضا هي حقيقة طارئة بفعل الكفاح الاسرائيلي ولا أريد أن أسمّيه مقاومة لأنه في ذلك الوقت لم يكن مقاوماً بالمعنى العسكري للمقاومة، فمن يقرأ الأدبيات الصهيونية قبل أن تصبح كتاباً لهرتزل يلاحظ أنها في البداية تبلورت في الأدب وفي الشعر وفي الثقافة الغربية مع بداية القرن السادس عشر ومع ظهور الكنيسة البروتستانتينية عندما ربط المفكرون والأدباء والشعراء الغربيون العهد القديم بالعهد الجديد وأصبحت الكنيسة البروتستانتينية تقول انك لن تكون مسيحياً إلا إذا آمنت بالعهد القديم وهو الذي تم استبداله بأساطير الرومانية واليونانية فدخلت بهذا الطريق اليهودية إلى كل بيت مسيحي وأصبح هناك ارتباط كبير جدا بين الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية حتى إنه في الولايات المتاحدة الأمريكية جزء كبير من القوى المحرّكة للسياسة الخارجية الأمريكية عبارة عن تحالف مسيحي يهودي على أساس التحالف الديني، التحالف المصيري الذي أصبح قناعة وأصبح حقيقة في أذهان المسيحيين أنفسهم. ومن هذا المنطلق نقول ان الثقافة الاسرائيلية أصبحت جزءاً من الثقافة الغربية. السؤال الذي يطرح نفسه هل هذا حقيقة أم لا؟! هذا سؤال آخر ولكن نتائجه نراها على الواقع وهو أن اسرائيل زرعت واسرائيل يدافع عنها من قبل المسيحيين أنفسهم لذلك لا يستطيع المسيحي أبدا أن يتكلم عن المحرقة «الهولوكوست» للتشكيك في مصداقيتها لأنه قد يتعرض للفصل أو للسجن أو للإهانة وقد حدث في فرنسا وفي أمريكا وحدث في كثير من الدول الغربية. إن كثيرا من الأشياء الموجودة في العهد القديم وفي الكتب المقدسة المسيحية التي تدين المسيحيين إما حُيِّدت أو ألغيت نهائيا ولم يجرؤ أحد إلى الآن على أن يظهرها ومن ضمنها الزعم بقتل المسيح نفسه بهذه من المحرمات التي تقال على المستوى الشعبي المسيحي. من هذا المنطلق أصبحت اسرائيل أو الصهيونية بمعنى أصح حتى أعطيها المعنى الأيديولوجي العنصري أصبحت جزءاً من المنظومة الفكرية والثقافية الغربية وتحديدا الولاياتالمتحدةالأمريكية. فيما يتعلق بقضية العولمة المشكلة فيها هل هي محتوى ومضمون أم أنها مشروع مستمر؟ إن كانت محتوى فهنا الإشكالية وهنا ندخل في عملية الانتقاء وإن كانت مشروعاً مستمراً، طريقاً لا بد أن يمر به كل أحد فهذه قضية أخرى لا أعتقد أنها تدخل في النقاش، لأن المحتوى يشمل الغث والسمين ويشمل الحسن والقبيح. * د. البازعي: فيما يتعلق بمسألة الحضارة أشار أحد المسؤولين الاسرائيليين مؤخرا إلى أننا نحارب باسم الحضارة، هكذا بدون غربية، فقط باسم الحضارة بمعنى أننا نقف على تخم الحضارة أمام مجموعة من البرابرة. وهذا الخطاب مقبول من الشعوب الغربية بشكل واسع لأنه ينظر إلى اسرائيل على أنها تمثل الأنموذج الحضاري الغربي بشكل عام ومؤسساته فالديمقراطية موجودة في اسرائيل وهي من نتاج التركيبة الحضارية الغربية. في حديث مؤخرا مع بعض الإعلاميين الأمريكيين الذين زاروا المملكة دهش أحدهم عندما ذكرت له أن اسرائيل تقول انها دولة ديمقراطية ويهودية في الوقت نفسه، مع أن هذا متناقض لأن النظام الديمقراطي لا بد أن يكون منفتحاً ومتعدداً وليس ذا هوية واحدة من الناحية الدينية، فتأكيد الهوية الدينية اليهودية معناه أنك ترفض الأديان الأخرى فكيف تكون ديمقراطية إذا كانت الديمقراطية بمعناها الحقيقي تعني إتاحة الفرصة لكل الآراء لتعبر عن نفسها. لقد بدا لي أن ما قلته لم يخطر ببال ذلك الإعلامي الأمريكي مثلما أنه لا يخطر ببال الكثير في الغرب، لكن مقولة ان اسرائيل جزء من التكوين الحضاري الغربي رائجة ومقبولة سواء كانت فعلا هي الحقيقة بتفاصيلها أم لا. وفي اعتقادي أنها صادقة إلى حد كبير لأنه وإن كنا نرى الوجه المضيء للحضارة الغربية أحياناً فإننا لا ننسى أن الحضارة الغربية أنتجت أيضا هتلر وأنتجت الاستعمار وانتجت أشكالا كثيرة من العنف والعدوانية التي ربما نقول انها بدأت منذ تأسيس الولاياتالمتحدةالأمريكية التي قامت على أنقاض الثقافات المحلية للهنود الحمر. فإسرائيل تظل نموذجاً متكرراً للنموذج الحضاري الغربي الذي يفرض نفسه على الآخر دون احترام لاختلاف الآخر أو لرغبته في الاستقلال أو في الاختلاف. إننا بهذا نصل إلى نهاية هذا اللقاء وسأعطي الكلمة لأحد الإخوة إذا أرادوا أن يختموا بشيء. * د. المناصرة المسألة الأساسية فعلا هي أن للأفكار المطروحة تداخلاتها الكثيرة وأيضا إشكالياتها المعقدة، لأن المسألة الأساسية كما ذكرنا سواء في الثقافة أو في المقاومة، هي العلاقة مع الوجود الاسرائيلي، وكما ذكرت في البداية المسألة محسومة بغض النظر عن الطروحات الثقافية المطروحة فلا شك أن المجتمع الاسرائيلي أيضا ليس هو كله مجتمع صهيوني، يعني هناك مجموعة من الناس تجدهم مختلفين: هناك مثلا الآن السامريون في نابلس يعيشون بين الفلسطينيين ولا يعترفون حتى بدولة اسرائيل كما يرفضون أن يحملوا الجواز الاسرائيلي.. المفهوم الأساسي في ثقافتنا هو المفهوم الإنتاجي على كافة المستويات، على التربية وفي وسائل الإعلام وفي الإنتاج وفي الاقتصاد، وفي العلاقة مع الأرض والعلاقة بين الناس، يعني هذا المستوى الإنتاجي هو المستوى الأساسي في هذا التكوين الثقافي أما إن بقيت تعاملاتنا على مستوى الاستهلاك وعدم إدراك الذات فإن دورنا في القرن الواحد والعشرين لا يختلف عن دور التمزق الذي عانيناه ونعانيه، فإسرائيل ليست بقوتنا الثقافية ولدينا نظريات ثقافية جيدة، والأفكار موجودة ومطروحة لكن في المشكلة تطبيقاتها على الواقع، يعني إلى متى نبقى في هذا الإطار؟ ويبدو أن الانتفاضة سوف تشكل رؤية جديدة أو على الأقل سوف تشكل منظاراً للمستقبل يجب أن نعيد من خلاله كثيرا من الأفكار التي عانيناها في الماضي ونسعى إلى التخلص منها. * د. العتيبي: السؤال الذي أود أن أختم به: إذا كنا بصدد الحديث عن ثقافة المقاومة أو استخدام المقاومة كرافد من روافد الثقافة فالسؤال هو من أين نبدأ؟ في نظري أن البداية الأولى هي حقانية أخلاقية فعروبة فلسطين لا شك فيها وإسلامية فلسطين لا شك فيها وهي ليست وهماً ولا نوعاً من التطلع التاريخي العنصري ولا من الخيال الحالي، والمثقف ملزم بأن يؤكد على هذه القضية. النقطة الثانية في المقاومة الفلسطينية وإن كنت لا أفضّل أن أسميها مقاومة في الوقت الحالي وإنما هي مقاومة في فترة 1948م، وحاليا هي حرب، هي قضية الشهادة، فقضية الشهادة في التاريخ الإسلامي قضية مهمة جدا سواء في الماضي القريب أو في الماضي البعيد سواء في الشهادة في التخلص من الاستعمار أو في بداية الدولة الاسلامية الأولى فالشهادة بطهرها وقداستها وإخلاصها للهدف أعتقد أنها من أهم الوسائل التي أثبتت أنها قادرة على زعزعة أمن اسرائيل وعلى دفعها في أحيان كثيرة إلى التراجع. ثقافة المقاومة أيضا يجب أن تجسد في الذاكرة قيم النضال وهذا ما يفعله الفلسطينيون ولكني لا أجدها على المستوى العربي ولا على المستوى الإسلامي فمن الضروري رفض كل ما يغير هوية فلسطين وكل ما يغير هوية الشعب الفلسطنيي المسلم وهذا يعني التصدي لكل محاولات التطبيع التي ليس من شأنها إلا بث الوهن والخنوع في النفسية العربية، فالصراع بين الشعب العربي المسلم والاسرائيليين في فلسطين هو أشبه ما يكون بصراع بين الخير والشر، فالصهيوني بتكوينه التلمودي وتكوينه العنصري شرّ متحرّك، هو كما يقول البعض شايلوك الذي يريد أن ينتزع اللحم من غريمه أنطوني مقابل المال! يجب أن تكرس هذه القضية وهي صورة الآخر وأعني بالآخر هنا الصهيوني العنصري المستبد وهذه المهمة ليست مهمة العامة وإنما هي مهمة المثقف على وجه التحديد . * د. البازعي: أشكر الإخوة الزملاء على ما تفضلوا به في المشاركة بهذه الندوة وإثرائها بالآراء المتنوعة، كما لا يسعني إلا أن أشكر أيضا الإخوة الحضور على مداخلاتهم وتعليقاتهم المميزة على ما طرح في هذه الندوة. د. العتيبي: اللجوء إلى المقاومة انطلاقاً من الثقافة أمر مشروع ومنطقي وتاريخي ومجرب على المستوى العالمي د. المناصرة: التمسك بالثقافة جزء أصيل من المقاومة ومقاطعة المنتج الصهيوني جزء من المقاومة تعليقات الجمهور * محمد أبو حمرا: أشار في مداخلته إلى نموذج الأندلس ووجود العرب هناك فهو يذكر أن هناك مقاومة ثقافية متجذرة أو ينبغي التفريق بين مقاومة ثقافية متجذرة ومقاومة قادمة وأن النموذج العربي في الأندلس أو الوجود العربي انحسر نتيجة المقاومة الإسبانية ولم يبق للعرب سوى الآثار وهذا نموذج للمقاومة المتجذرة فالإسبان لم يقبلوا بالوجود العربي الإسلامي رغم مرور سبعة قرون. * أحد الحضور: المنطقة غارقة في السياسة، والسياسة جزء من الثقافة والذي يحدث الآن مثلما تحدث الإخوة المحاضرون هو أن هناك معتدياً ومعتدَى عليه سواء تحت مفهوم حرب أو انتفاضة . هناك عدو ،وهناك مقاوِم، إذا كان العمل السياسي واحداً من أساليب الثقافة المقاومة فلا بد أن نهيء أنفسنا ونرى عدوّنا ونرى العالم المحيط بنا والسؤال المهم هو كيف نستطيع التعامل مع هؤلاء جميعاً؟!. * سعد الكنهل: أود أن أركز على النموذج الجزائري حين لعبت الثقافة بمفهومها العام دوراً رئيسياً في مقاومة الثقافة الفرنسية وهذا كان جانباً مهماً من جوانب المقاومة على مرّ أكثر من مائة وثلاثين سنة من ضم الجزائر إلى فرنسا واعتبارها جزءا من فرنسا، فلم تكن المقاومة مقاومة حربية عسكرية طوال هذه المدة بل كانت مقاومة ثقافية حقيقية، مقاومة تتمثل في اللغة والدين وطبيعة علاقة الناس وارتباطهم بأرضهم وارتباطهم بثقافتهم ومحيطهم وهذا نموذج للمقاومة وهو نموذج تاريخي مميز. * صالح الخيال: أتساءل عن دور المثقفين وبالذات منذ بداية التسعينات الميلادية تجاه الهيمنة المطلقة أو شبه المطلقة، فقد جدت مفاهيم وغابت أيضا مفاهيم مثل مقاومة الشعوب لاحتلالها أو مشروعية المقاومة الوطنية وغابت مفاهيم السيادة الوطنية ومفاهيم الهوية هوية الشعوب وانتماءاتها من مضامين المقاومة ليس المقاومة على الساحة الفلسطينية رغم أهميتها فحسب وأيضا التأكيد على هذه المفاهيم السيادة الوطنية والهوية القومية. * أحمد العويس: لدي نقطتان غير مترابطتين ارتباطاً وثيقاً ببعضهما .. الأولى ورد ذكرها في ما يخص موقف بعض الخبراء الاسرائيليين ضد السلام لأنهم يعتقدون أن نهاية اسرائيل هي في تحقيق السلام، هنا أريد فقط أن أعلق تعليقاً بسيطاً وأذكر شاهداً من الشواهد يذكرني بالدكتور حسن ظاظا رحمه الله عندما كان الجدل على أشدّه بعد أوسلو، سألته شخصيا عن رأيه بالسلام مع اسرائيل فذكر لي أنه ينبغي لنا السعي الحثيث وبذكاء لتحقيق السلام مع اليهود في فلسطين لأن الوصول إلى ذلك هو تحرير لليهود من الصهيونية وقبولهم للتعايش السلمي وتحقيق ذلك يعني انتهاء دولة اسرائيل بصورتها الراهنة ذات القوانين العنصرية الاستعلائية النافية للآخر والتي تعطي لنفسها حقوقاً خاصة بها لا يجوز أن تكون لغيرها، هذه النقطة الأولى. وهناك نقطة أخرى هي أن الصراع شكلاً ومضموناً هو صراع بيننا وبين معتد محتل مستوطن سارق، وقد نجح هذا المعتدي كثيرا في تزييف هذه الحقيقة بجعل غيره بما فيهم المعتدَى عليهم إلى حدّ ما يقبلون أن الصراع هو بين العرب لأنهم عرب والمسلمين لأنهم مسلمون واليهود لأنهم يهود ولا شيء غير ذلك ويوظف لجعل هذا الزيف حقيقة. ولعله قد نجح. هذا الطرح السابق تدور حوله إشكالية حقيقية ويمكنكم أن تضعوا ما تشاؤون من علامات الاستفهام والتعجب!