لورانس داريل «1912 1990م» الروائي البريطاني الذي كره بريطانيا عاش لورنس داريل حياتين أو عاش حياته نصفين مختلفين تماما. في النصف الأول كان داريل جوّالاً بين المدن لا يعرف ما يخفيه له الغد وليس له عمل دائم. كل يوم في مكان ومع أشخاص آخرين وعمل مختلف. وعلى النقيض تماما كان النصف الآخر من حياته يسير وفق نظام صارم كعقارب الساعة. كان والده يعمل مهندساً في السكة الحديد وبحكم مشاركته في إنشاء سكة حديد إقليم البنجاب، عاش داريل طفولته في الهند تحيط به عوالم غريبة وأبوان على طرفي نقيص، فالأب يتسم بالإصرار وقوة الإرادة وتحديد أهدافه والحرص الكامل على تحقيقها، بينما الأم الأيرلندية تتسم بالارتباك و«قلة الحيلة» فلم تكن ماهرة في تحصيل المال أو حتى المحافظة عليه. وفي المرحلة الثانوية انتقل داريل من أجواء الهند وغرائبها وتناقضات أسرته. بالطبع كان بداخل الفتى مقارنات كثيرة بين عالمين .. بين دولة مستعمرة كبيرة وامبراطورية ضخمة وباردة كالفولاذ .. فإلى أي العالمين ينتمي؟ إلى الهند التي عاش طفولته بها أم إلى انجلترا التي التحق بمدارسها؟ آنذاك تقدم داريل لامتحان القبول بجامعة كامبردج جامعة الصفوة في المجتمع الإنجليزي لكنه رسب في امتحان القبول ثلاث مرات، وأصابته خيبة الأمل والإحساس بالمرارة. ها هي أعرق جامعات بريطانيا تغلق الباب في وجهه، وليس أمامه سوى أن يسعى في الحياة ويكسب رزقه بيده. أعمال غريبة ربما لا يعرف داريل كيف التحق بها! الصدفة وحدها كانت وراء اختيار العمل، مرة بواباً وفي أخرى كان مصوراً فوتوغرافيا أو عازفاً في ملهى. وذات مرة وبينما كان يبيع المكانس الكهربائية تعرف على زوجته الأولى «نانسي» وبدلا من أن يبيع لها المكنسة أقنعها بالزواج. كانت حياته مضطربة .. ووسط هذا الاضطراب حاول أن يحترف الكتابة الأدبية والصحفية لكنه لم يحقق أي نجاح! بدت الهوة شاسعة بينه وبين الوطن . شاب في العشرين مجرد بائع متجول ومجتمع مغلق وبارد ليس من السهل اختراقه. وكان القرار أن يطوي صفحة الوطن ويهاجر، واختار اليونان وطنا بديلا وأملا جديداً. وفي جزيرة «كورفو» عمل داريل مدرساً للغة الإنجليزية متمتعاً بدفء الطبيعة ودفء العلاقات الإنسانية قرابة سبع سنوات، وعندما اقترب الألمان لاحتلال اليونان هرب داريل في سفينة صيد، فعبر البحر المتوسط وانتهى به المطاف على شواطئ الإسكندرية عام 1941م. مرة أخرى عاد إلى حياة القلق والى المجهول في مدينة لا يعرفها ولا تعرفه. لكن لأن انجلترا كانت تحتل مصر في تلك الفترة فإن داريل تعرف على بعض الشخصيات البريطانية من مصر وعلى رأسها «والتر سمارت» مستشار السفارة البريطانية وأحد أخطر الشخصيات البريطانية آنذاك. وفي لقاء ودي بين داريل الكاتب الفاشل وبين سمارت الدبلوماسي الداهية دار الحديث عن مدينة الإسكندرية وعن الشاعر السكندري اليوناني «كفافي» وقال سمارت إنه نصح أحد الأدباء الانجليز بالكتابة عن إسكندرية كفافي. وفيما يبدو لم يستجب هذا الأديب لنصيحة سمارت بينما داريل لم ينس هذه النصيحة وظلت عالقة بذهنه ستة عشر عاماً إلى أن أصدر أعظم رواياته «رباعية الاسكندرية» التي تعد واحدة من أشهر روايات القرن العشرين. توطدت علاقة داريل بسمارت رجل المخابرات الإنجليزية في مصر والذي يلي المندوب السامي البريطاني في الأهمية. وفي ظل أجواء الحرب العالمية الثانية قرر سمارت أن يعين داريل ملحقا إعلاميا للسفارة في الاسكندرية وبعد انتهاء الحرب عاد داريل مرة أخرى إلى اليونان، فعمل بالسفارة البريطانية هناك ثم عمل مديرا للمركز الثقافي البريطاني، وفي نفس الوظائف تنقل ما بين يوغسلافيا والأرجنتين. وفي منتصف الخمسينات بدأ داريل يحقق شهرة أدبية واسعة قامت على أشعاره وكتب الرحلات التي أصدرها عن اليونان وقبرص وردوس وغيرها. وكان قد تجاوز الأربعين من عمره فاتخذ القرار الذي كان يحلم به منذ شبابه الأول وهو أن يعيش من قلمه ويتفرغ للكتابة. حتى هذا الحين كان داريل شخصاً ودوداً مع الآخرين متدفقا بالحيوية والنشاط، يمارس السباحة والمشي واليوجا، ويمتلك ذخيرة من التجارب الإنسانية من خلال ترحاله بين قارات العالم الجديد والقديم. كان داريل بطبعه لا يحب المجتمع الإنجليزي ولذلك منذ رحيله عن انجلترا عام 1934 وحتى وفاته عام 1990 أي ما يقرب من ستين عاماً لم يفكر داريل أبدا في الإقامة الدائمة بها واكتفى بزيارات قصيرة وسريعة، وكان يعلن موقفه بوضوح وصراحة بأنه لا يحب الإقامة في انجلترا ولا يطيق المجتمع الإنجليزي، ويفضل الحياة في حوض البحر المتوسط حيث الحياة سهلة وبعيدة عن التحفظ والبرود. هذه العلاقة المتوترة بالوطن أثارت العديد من الأقاويل ضد داريل فاتهم بعدم الوطنية وضعف ولائه لبلاده وكان رده «إنني عشت في أكثر من مكان، وهذا ما جعلني إلى حد كبير أشبه بسوق مشتركة، هذا فضلا عن أن جذوري متنوعة جدا، لكن الأمر الذي أعاني منه حتى الآن هو أن الإنجليز يكرهون نصفي الأيرلندي (من ناحية الأم) والأيرلنديون يكرهون نصفي الإنجليزي، والواقع هو أنني لا أصلح أن أكون إنجليزياً ولا أيرلندياً، فانتمائي إلى الحياة مختلف». وعندما نشر أول رواية ناجحة له «الكتاب الأسود» عام 1937م منع من نشرها لأسباب أخلاقية فاضطر إلى نشرها في العام التالي في فرنسا فحققت رواجاً كبيراً. وكان الناقد والشاعر الأشهر ت.س.إليوت من كبار المتحمسين لها، لكن دور النشر البريطانية لم تشاركه بنفس الحماس، ليس لأن الرواية فاحشة كما أثير وإنما لأنها تنقد بعنف وتفضح المجتمع الإنجليزي المتعالي والمغلق على نفسه حيث العلاقات الإنسانية فاترة ومليئة بالتظاهر والخداع. علاقة مركبة وشديدة التعقيد بين كاتب كبير ووطن يفترض أنه واحة الديمقراطية، من مصادرة روايته إلى اتهامه بعدم الوطنية، ثم كانت التهمة الأقسى وهي الجاسوسية، هذه التهمة ذائعة الصيت عن داريل خاصة في البلاد التي عمل بها داريل كموظف في السفارة البريطانية. ودائما كان السؤال يطرح في الخفاء والعلن: هل كان داريل جاسوساً؟. أحد الصحافيين واجه داريل بهذا السؤال عام 1981م وهو شيخ في السبعين تقريبا، فأجاب داريل بسخرية وعمق: «لقد عينتني الحكومة الإنجليزية ملحقاً صحفياً في السفارات البريطانية في الشرق الأوسط واليونان ويوغسلافيا، وأعتقد أن العزلة التي أعيشها منذ سنوات يمكن أن تقنعك بأنني لست جاسوساً ولم أكن جاسوساً في يوم من الأيام . إنني لا أصلح أبدا لدور الجاسوس فوجهي القاسي لا يسمح بالانتقال السريع من وضع إلى وضع آخر، هذا فضلا عن أن صوتي الخشن يعطيني صفة «رجل عصابات» أكثر من صفة الرجل السري الذي «يتلصص» على الناس، فلم يكن ما قيل عني صحيحا. كنت موظفا إعلاميا فقط، دون أن يعني ذلك أنني لم أكن مطلعا على بعض الأسرار. لكن بعض المؤرخين يتركون لخيالهم العنان، وهذا على كل حال بات أمرا معروفاً، فالتاريخ يكتبه المرضى في كثير من الأحوال». طبعا بجانب الرد الحاسم لداريل على هذه التهمة المشينة هناك دليل آخر في صالحه وهو أن الإنجليز أنفسهم كانوا لا يثقون في ولائه ويستاؤون من دأبه على مهاجمة المجتمع الإنجليزي، فكيف يعتمدون عليه في عمل من هذا النوع الذي يحتاج إلى الولاء المطلق. وربما المبرر الوحيد لاختياره كملحق إعلامي أو مدير مركز ثقافي، هو أن داريل كمواطن إنجليزي كان بلا عمل وبعدما أصبح كاتبا معروفاً فإنه ليس من اللائق أن يبقى هكذا. وفي كل الأحوال وبعيدا عن هذه الاتهامات أو حتى تفنيدها، فإن لورنس داريل عندما تأكد أنه يستطيع أن يعيش بقلمه أنهى حياته الوظيفية واعتزل الناس تقريبا في قرية صغيرة بجنوب فرنسا، وفرض على نفسه نظاماً روتينياً صارماً، فكان يستيقظ في الرابعة والنصف صباحاً، وفي الخامسة يمارس رياضة «اليوجا» لمدة ساعة، وكان يرى أن اليوجا تساعده كثيرا على التخفيف من مرض الربو الذي ظل يعاني منه حى نهاية حياته. وبعد أن يستريح من اليوجا قليلا يكتب بعض الملاحظات حول ما يشغل ذهنه من أفكار، ولأنه كان يعيش وحيدا فهو ينزل بعد ذلك إلى السوق ليشتري ما يحتاج إليه، وفي الثامنة صباحاً يجلس أمام مكتبه ويكتب لمدة سبع ساعات متصلة، وبعد تناول الغداء يمشي بعض الوقت ثم يعود إلى منزله ليقرأ ويرد على الرسائل البريدية، وفي التاسعة يأوي إلى فراشه. أسوأ ما في هذا البرنامج أن داريل كان يدخن بشراهة وبدا منعزلا عن الحياة والآخرين، لذا لم تتحمل زوجاته الأربع تباعاً هذه العزلة، لينتهي به المطاف وحيداً بعيداً عن وطن.. بعيدا عن بنتيه .. وعن برودة المجتمع الإنجليزي .. ورغم هذا ظل قبل رحيله وبعده تطارده الشائعات والاتهامات المجانية التي تنال من شخصه كإنسان بل وتنال من أدبه أيضا، حيث وصفه البعض بأنه أدب يتسم بالقوة ولا يرى في الناس إلا جوانب الضعف والخسة والشر .. ليس دفاعاً عن داريل ولكن ألا يمكن القول إن عصر الحرب العالمية الثانية كان كافياً للإحساس بالقسوة والضعف والخسة؟ ألا يمكن القول إن قسوة الآخرين واتهامهم الدائم له بأقذع النعوت هما سبب ما يفيض به من مرارة وإحساس بنذالة البشر وقسوتهم وغير ذلك مما يعكسه أدبه؟. ربما .. وتبقى رباعية الإسكندرية رغم قسوتها رواية تفيض بالجمال والشجاعة.