شعرت لبنى بألم المخاض وهي تعلم تمام العلم أنها لن تستطيع الوصول إلى المستشفى، فالدبابات الإسرائيلية تجوب الطرقات وتخبر الجميع بأن الخروج يمكن أن يكون قاتلا. لكن الحصار العسكري والضرورة ولدت إبداعا لدى الشعب الفلسطيني، (فالحاجة أم الاختراع) ولهذا فقد قامت بمهاتفة طبيبها وقام بإرشادها مخاطبا اياها عن بعد عما يجب عليها أن تفعله حتى تقوم بعملية الولادة. وهكذا ولدت الطفلة رانيا، الوردية الوجه التي قدمت إلى هذا العالم المحاصر بالحرب. فمع الأسبوع الثاني للاحتلال الإسرائيلي لرام الله، أصبح الفلسطينيون يواجهون دخول كل من الحياة والموت تحت هذا الحصار، فالأطفال الذين تمت ولادتهم في ردهات المستشفيات لم يعودوا قادرين على العودة إلى المنازل. الناس يموتون ويقتلون ولا تزال جثثهم تنتظر عمليات الدفن الجماعي، ولا يزالون في ثلاجات المستشفيات لأن الرحلة إلى المقبرة خطرة جدا. أما بالنسبة للطعام والخدمات الأساسية مثل العناية الطبية، الكهرباء والماء فهي شحيحة وغير متوفرة، باستثناء بسيط وهو عندما سمحت القوات الإسرائيلية للفلسطينيين بالخروج من منازلهم، على الرغم من عدم مقدرتهم الذهاب إلى العمل أو إلى المدارس باذلين أقصى جهودهم للمحافظة على الماء وعدم ترويع الأطفال. إن إسرائيل التي تدعي أنها تحاول إيقاف موجة العمليات الفدائية قامت باحتلال كل المدن الفلسطينية الرئيسية باستثناء أريحا، واضعة ما يقدر بمليون ونصف المليون فلسطيني تحت الإقامة الجبرية. وفي كل مرة تقوم فيها الدبابات الإسرائيلية بدك شوارع (عبير بحور) ليلا أو نهارا فإن المنزل يهتز، عندها تستعد عبير لصراخ طفلتها البالغة من العمر سنتين. ومثل الكثير من العائلات في رام الله فإن عائلة بحور تمضي ساعات طويلة أمام شاشات التلفاز لمتابعة آخر التطورات هذا عندما يتوفر التيار الكهربائي. إنهم ينامون ويلهون أو يقومون بتدريس أبنائهم. السيدة بحور متزوجة من رجل أعمال فلسطيني يتمتع بالجنسية الأمريكية، قالت ان ابنتها البالغة من العمر ثماني سنوات أصبحت مضطربة وخائفة من التجول داخل المنزل لوحدها، أما طفلتها فأصبحت متوترة ودائمة البكاء. وقالت السيدة بحور: إن التيار الكهربائي ينقطع ويوصل عدة مرات باليوم، ونحن بالكاد نحصل على ماء للشرب، فأنا لا أقوم الا بغسل عدد ضئيل من الأطباق ولكنني لم أغسل الملابس ولم نستحم منذ فترة لأننا نوفرالمياه للشرب ومن الصعب جدا جمع مياه الأمطار فنحن خائفون جدا من الخروج من المنازل. وفي أجزاء متعددة من المدينة تم قطع التيار الكهربائي لأن الدبابات الإسرائيلية قد دمرتها وقامت أيضاً بتحطيم المحولات وبما أن الماء يزود بالمضخات الكهربائية وهكذا فقد حرمنا من كل من الماء والكهرباء معا، هذا وقد تم قصف خزانات المياه الموجودة فوق أسطح المنازل من قبل القناصة الإسرائيليين، أما بالنسبة لأطقم الهندسة الفلسطينية فالكثير منهم يعمل على إصلاح المرافق الأساسية التي دمرها الإسرائيليون بينما تم طرد الآخرين من قبل الجنود خارج المدينة. إضافة إلى الخوف والرعب الذي تحدثه الدبابات والجنود والقناصة ونفي العديد من الشوارع، إلا أن الوجود داخل المنزل وفي مناطق ضيقة ومحصورة له تأثير سلبي جدا على نفسيات المواطنين، فالناس مكتئبون وقلقون، ويقول بعض الفلسطينيين انهم يحاولون تزجية الوقت وقهر الخوف من خلال القراءة ولكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك والحرب مشتعلة في الخارج، حتى انهم اصبحوا خائفين من التجول داخل منازلهم أو الدخول على الإنترنت أو القيام بأي عمل خوفا من الطلقات الطائشة، وتقول عديلة هنية الناشطة السياسية: هناك خوف كبير وإرهاب وإذلال إلا انه يجب علينا تنظيم أنفسنا وأشغال أنفسنا بأي شيء فهو الطريق الوحيد للمحافظة على الروح المعنوية مرتفعة. وقد استطاعت السيدة هنية أن تعتاد على الوضع من خلال الحفاظ على مفكرة الحصار بحيث تدون كل ما يحدث للناس جراء هذا الحصار وتلك الحرب وتقوم بإرسالها عبر البريد الإلكتروني إلى أصدقائها ومعارفها حول العالم. لقد تم تدمير وتعطيل الخدمات الطبية الأساسية، ففي رام الله لوحدها قام الجنود الإسرائيليون بقصف المستشفيات ثلاث مرات وقاموا خلالها بتفتيش غرف المرضى وسلب الأدوية الموجودة بالمستودعات. وقد روى العديد من الأطباء وشهود عيان انه في مستشفى الأمومة التابع للهلال الأحمر كان الجنود يقومون بإخراج النساء الولادات من الأسرة ومن الغرف من اجل التفتيش ولساعات طوال، وقال السيد نادر أبو عيشة أحد الأطباء: لقد تم اقتيادنا نحن والمرضى إلى اسفل غرفة الاستقبال وكان هناك أطفال حديثو الولادة لا تتجاوز أعمارهم ثلاث ساعات، ثم بدأوا بتفتيش المستشفى شبرا بشبر من الطابق الأول إلى الطابق الرابع وقد تم تقييد طبيبين وممرضتين وتعصيب أعينهم من قبل الجنود. وقد أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر يوم الجمعة بأنها ستقلص عملياتها في الضفة الغربية للحد الأدنى بعد التهديدات التي تلقاها طاقمها في إحدى مناطق إطلاق النار في بيت لحم، وقصفهم في نابلس ورام الله فقد تم دهس سياراتها من قبل الدبابات في طول كرم وقد تكرر منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى حيث يقول الجيش الإسرائيلي إنه يخشى أن تقوم سيارات الإسعاف بنقل الأسلحة إلى المحاربين الفلسطينيين. وقد صدر بيان عن الصليب الأحمر يستنكر فيه هذه الأعمال قائلا: إن هذا السلوك غير مقبول كليا لأنه لا يعرض عمال الإغاثة فقط للخطر بل يعطل أيضا المهام الإنسانية التي يقوم بها الصليب الأحمر. وفي قسم الخداج قالت رئيسة الممرضات صباح ربيع : لقد استنفدت المستشفى جميع حفاضات الأطفال والأغطية النظيفة وذلك لعدم وجود المياه الكافية للغسيل، وهناك طفل يدعى مسعود عواد يبلغ من العمر 24 يوما وهو مستعد للذهاب إلى المنزل بعد شفائه من المرض الذي كان يعاني منه في جهازه التنفسي ولكن لم يتمكن أبواه من الوصول إلى المستشفى وهما يقومان يوميا بالاتصال بالمستشفى للاطمئنان عليه وهما يبكيان قائلين انهما سيأتيان لأخذه حال فتح الطرق. أما السيد شوقي حرب أحد جراحي المنطقة البارزين فانه اصبح يستخدم الشموع الموجودة لديه بدلا من الكهرباء ويغطي نفسه بالحرامات من اجل البقاء دافئا ويقول معلقا على الوضع: نحن لسنا في سراييفو وأتمنى أن لا نصل أبدا إلى ذلك الحد من السوء مشيرا بذلك إلى محاصرة الصرب للمسلمين أبان الحرب البوسنية. وقد حوصر السيد شوقي داخل مركزه الطبي، والذي قامت القوات الإسرائيلية بقصفه مرتين مستخدمينه درعا بشريا في إحدى العمليات عندما اجبروه على إرشادهم على الغرف والمرضى وفي يوم الثلاثاء في إحدى اللحظات القصيرة تم رفع حظر التجول مما أتاح الفرصة للسيد شوقي الذهاب إلى منزله، أما الآن فهو غير قادر على العودة إلى المستشفى لإتمام العمليات الجراحية التي تنتظره، وهو يقوم من خلال الهاتف بإصدار تعليماته إلى الممرضين الذين يأمل أن ينجحوا بتنفيذها، وبمثل هذه الطريقة استطاعت السيدة سلوى نجيب إنجاب طفلها، فهي تقوم بمساعدة الأطباء والممرضين من خلال التعليمات التي تتلقاها من الطبيب عبر الهاتف وقد قامت هذا الأسبوع بمساعدة عائلة على إنجاب طفل وتقول : لقد كان الزوج خائفا جدا وكانت الزوجة تصرخ وقد حاولت تهدئتهم وإخبارهم أنه بالسابق يقمن بهذه العمليات بالمنازل ولكن هذا لم يفد في شيء ولم يهدأ من روعهم. أما راماديين المرأة التي وضعت يوم الجمعة فكانت محظوظة بوجود والدة زوجها جانبها فقد قامت طرفة بإنجاب طفلين بالمنزل عندما اندلعت الانتفاضة الأولى ضد الإسرائيليين منذ ثلاثة عشر عاما وقد قامت بعملية الولادة بنفسها فقد كانت على اتصال بطبيبها أثناء الولادة وقامت بتنفيذ تعليماته بنفسها حيث قامت بقطع الحبل السري وتنظيف المجاري التنفسية للوليد وتقول مستذكرة تلك الأيام : لقد كنت خائفة حقا فقد حان موعد الولادة في منتصف الليل وكانت الدبابات الإسرائيلية تحاصرنا ولم يكن باستطاعتنا الخروج من المنزل وقد كنت خائفة أن يموت الطفل. لقد وضعت أربعة أطفال وكنت أواجه مشاكل في كل مرة ولكن هذه المرة كانت أفضلها على الرغم من الظروف الصعبة في الخارج. أما زوج طرفة فهو سائق شاحنة وقد اعتقلته السلطات الإسرائيلية في السابق وهو الآن خائف ومختبئ في المنزل. هذه هي الحياة المأساوية التي يعيشها معظم الفلسطينيين في ظل الحرب الجائرة التي يقوم بها السفاح شارون. عن «التايمز» البريطانية