وقف الأب المكلوم طلال ناصر، امام منزله في الشارع المدمر في بيت حانون، ليروي قصة مقتل طفلته ابتهال 12 عاما على ايدي الجنود الاسرائيليين داخل المنزل خلال الليل. ويقول انه عندما فتح الباب لجنود الاحتلال سألهم عن سبب اطلاق النار على المنزل وقتل ابنته، ردوا عليه انهم ليسوا مسؤولين عن ذلك، بل مجموعة من المجانين في المنزل المقابل هم الذين قتلوها. اذا كان الاسرائيليون يصفون ممارساتهم بالجنون خلال عملياتهم في بيت حانون وخلال فترة احتلالها يمكن تصور مدى المعاناة التي عاشها الفلسطينيون في البلدة الزراعية الوادعة، شمال قطاع غزة، وتحدها من الشمال والشرق اراضي الخط الاخضر ومواقع عسكرية اسرائيلية كثيرة. بدت بيت حانون امس، في اعقاب انسحاب القوات الاسرائيلية منها فجراً، وكأنها خرجت لتوها من"تسونامي"ضربها في بيوتها وشوارعها وبنيتها التحتية، فأحالها دماراً وخراباً، وسقط خلاله 63 شهيدا و53 جريحا. رائحة الموت في كل شارع وزقاق ومنزل، وفي المستشفى الوحيد الصغير في البلدة. بقايا من السواد والاسلاك المعدنية الرفيعة الموجودة داخل الاطارات تغطي المفترق الفاصل بين العزبة والبلدة. وما ان تصل الى وسط بيت حانون حتى تتجلى آثار ضربات قوات الاحتلال. فهذه اجزاء من الطريق أزيلت، وهذه ارصفة دمرت تماماً، وتلك اعمدة كهرباء حديدية تكسر كثير منها او سقطت على الارض، فيما بقيت اسلاك كثيرة معلقة في الهواء. وغرق بعض الشوارع في المياه جراء تدمير شبكات المياه في البلدة. وبدت كل الاراضي، الزراعية وغير الزراعية، محروثة بشفرات جرافات الاحتلال او تحت جنازير الدبابات التي صدمت جدراناً ومنازل، فأطاحت اكثر من 200 منها وشردت سكانها في عز البرد والمطر. الشمس أشرقت أمس فبددت"غيوم الخريف"التي لبدت سماء البلدة الصغيرة لستة أيام وسبع ليال، لم يذق خلالها 30 ألف من سكانها للنوم طعماً، فيما ارتجفت قلوبهم خوفاً من قادم مجهول. وخرج الآلاف لتشييع جثامين 18 شهيداً لم يتمكنوا من دفنهم اثناء العملية الاسرائيلية وفاضت دموع صفوف من النسوة على جانبي الطريق وامام المنازل وفي شرفاتها. وبدا المشهد سريالياً عندما ابتسم الطبيب جميل علي مدير مستشفى بيت حانون وهو يتحدث الى"الحياة"عن معاناته ومعاناة الاطقم الطبية طول أيام الحصار. لم يذهب علي، ابن بيت حانون، الى منزله منذ سبعة أيام، ولم يتصل بزوجته واولاده الاربعة وابنتيه. فجاؤوا جميعا في اليوم الرابع الى المستشفى لرؤيته عندما منح الجيش الاسرائيلي النساء فرصة ساعتين لتزود المؤن والمياه والشموع. قال:"عشر مرات اجرينا تنسيقاً امنيا مسبقا عبر اللجنة الدولية للصليب الاحمر ومكتب التنسيق في وزارة الصحة لنقل مصاب بجروح خطيرة الى مستشفى آخر. وفي كل مرة كانت الدبابات تغلق بوابات المستشفى فتتراجع سيارة الاسعاف الى الوراء... سبع ساعات استمرت لعبة القط والفأر قبل ان ينقل المصاب الى مستشفى الشفاء". وقال الممرض هاني الزعانين ل"الحياة"ان 17 جثة مرت على الثلاجة التي لا تتسع إلا لثلاث جثث في المستشفى. وأضاف ان الكثير من النازحين والمرضى من كبار السن لجأوا الى المستشفى. وعقب الطبيب علي قائلاً ان عددهم يراوح بين الف والف وخمسمئة مواطن في ظل انقطاع المياه، والاعتماد في التيار الكهربائي على مولدات، وعدم وجود فرشات واغطية. وتحدث الشاب عوني الزعانين 33 عاماً عن الاعتقالات الجماعية في كلية الزراعة الموجودة في البلدة. وقال انه كان واحدا من نحو اربعة آلاف شخص تراوح اعمارهم بين 15 و50 عاما تم تجميعهم في ساحة مجاورة للكلية. واضاف انه مكث ثلاثة ايام قيد الاحتجاز، يومين في الساحة وآخر في مركز احتجاز في حاجز"ايرز"القريب من البلدة، قبل اطلاقه.