تربطني بالشاعر المبدع أحمد الصالح علاقة متينة تعود بداياتها الى فترة الطلب الجامعي حين أتيت من عنيزة الى الرياض طالباً في كلية اللغة العربية. لم اكن اعرفه في عنيزة، لأنه لم يكن مقيماً هناك، ولكنني حين جئت الى الرياض عرفته بواسطة صديق الجميع الاستاذ حمد القاضي الذي سبقني الى كلية اللغة العربية، ومنذ ذلك الحين والاستاذ احمد الصالح يزداد مع الايام لمعانا وبريقا في اخلاقه وشعره ووفائه لكل من حوله من اصدقائه ومعارفه واقاربه بمقدار ما تزداد علاقتي به قوة ومتانة وقربا، وكانت الاهتمامات المشتركة بيننا عاملا قويا في توثيق تلك العلاقة. حين التقيت به اول مرة أحسست انني اعرفه منذ زمن بعيد لما يتحلى به من دماثة ولباقة وتواضع، وكنت آنذاك في السنة الاولى من دراستي الجامعية حين اطلع على شيء مما كتبه من الشعر، وقد وجدت من تشجيعه دافعا قويا، واحسست بثقة واطمئنان الى ما كنت اكتبه على الرغم من قلته، استمرت لقاءاتنا وتوثقت علاقتنا على مر السنين، وكان خلالها، وما زال، ملء السمع والبصر ينشر شعره في الصحف المحلية ويقيم الامسيات الشعرية داخل المملكة وخارجها، ويطبع دواوينه، حتى اصبح رمزاً من رموزنا الشعرية لايمكن تجاوزه في اية دراسة للشعر العربي في المملكة. دواوينه التي نشرها موجودة بين ايدي القراء والنقاد، ونظرة فاحصة على ما احتوته من قصائد تؤكد ان هذا الشاعر لايمكن تصنيفه ضمن مدرسة من المدارس الشعرية، فقد شق طريقه وبنى له شخصية مستقلة مميزة، والقارئ يرى في شعره ملامح من الشعراء التراثيين والرومانسيين والحداثيين، فهو يكتب قصيدة التفعلية بالقدرة نفسها التي يكتب بها القصدية العمودية، وليقيني ان كثيراً مما سوف يكتب عن الاستاذ احمد الصالح في هذا الملف التكريمي سيركز على قراءة شعره المنشور في الدواوين، فقد آثرت ان اتخذ منحى آخر واكتب عن علاقتي الشعرية به، وهذا يستدعي عرض بعض شعره الاخواني غير المنشور، وهو كثير جدا يمكن ان يشكل اكثر من ديوان لو أراد نشره، وارجو ان يفعل ذلك قريباً. في عام 1415 اقتنيت جهاز الفاكس، وقد كنت سعيدا به لأنه يختصر كثيراً من الوقت كما هو معروف، وكانت اول رسالة ارسلتها عبر هذا الجهاز الجديد للاستاذ عبدالله العوهلي صاحب دار العلوم، وهو صديق الطرفين، وكانت عبارة عن قصيدة مداعبة، مطلعها: دار العلوم تحية وسلام هل ما تزال بساحك الآرام ومنها: عاد الضيوف القهقري لما بدت لهم (المكاتب) ما بهن طعام فتحية العافين فيك قصيدة وقراهم بعد السلام كلام لما اشتريت الفاكس زادت غبطتي وعرفت ان يدي بها صمصام فغمزت فكسكِ بالمحبة هاجيا إن الهجا للأصدقاء سلام لما اطلع عليها الاستاذ احمد الصالح تطوع للرد عليها على الرغم من قدرة الاستاذ عبدالله العوهلي الشعرية التي يعرفها جميع اصدقائه ولكنه يتنكر لها دائما، كتب الاستاذ احمد قصيدةطويلة يدافع فيها عن دار العلوم وصاحبها، يقول فيها: وعلى أبي شادي الوفيّ تحية بأريجها تتعطر الأنسام دار العلوم كما عهدت حفية بالعلم والرواد فهي تمام ترعى العقول بكل علم نافع وبساحها تستأمن الآرام ومنها: أما ابو راكان حسبك أنه للناشرين مقدم وإمام همُّ الكتاب يعيش في وجدانه الحب بينهما هوى وغرام سارت بإصداراته مقطورةٌ وسفائنٌ فوق البحار عظام والجو أوصلها بعيدات المدى ولدى المعارض حولهن زحام رفقا أبا شادي فأنت حبيبنا (والدرعميون) اصطفوك وهاموا أحلى القصائد أنت رب بيانها ولك القوافي قادهن زمام عهديك هذا.. ما عهدتك قائلا لغو الحديث ولا اصطفاك خصام حا شاك ما شابت حديثك ريبة يوما، ولكنْ ما المزاح حرام وكنت ألح عليه دائما ان يقتني «فاكسا» ليسهل مهمة الاتصال بيننا، فقد كان، حين يريد ارسال قصيدة إليّ، يذهب الى اقرب مكتب خدمات هاتفية ليرسل مالديه، وفي صبيحة احد الايام فوجئت بقصيدة مرسلة بالفاكس تحمل الفرحة والانبهار والبشرى باقتناء الفاكس، وقد صور فيها فرحة العائلة كاملة بهذا الجهاز السحري الى حد انهم تسمروا امامه ينتظرون اي رسالة يحتفلون بها، وكان يستنجد بي في تلك القصيدة لأكمل فرحتهم بقصيدة يحتفون بها، ومن تلك القصيدة: أبا شادي تَفَكَّسنا فإن شعرا فآنسنا فإن الفاكس مفتوح على مفتاحه دُسْنا ونحن امام شاشته جميعا قد تحَّمسنا فإن أتحفتنا شعراً فكم لجميله بسنا فرادي سوف نقرؤه ومثنى في مجالسنا فشعرك دائما يأتي كنفح الطيب أو أسنى ومداعباته الشعرية لاتنتهي ابداً، وقصائده الاخوانية كثيرة، فلديه قريحة فياضة، وتدفق شعري رائع رهن اشارته، ارسل اليّ مرة قصيدة يشجعني فيها على نشر ديوان يضم ما لدي من قصائد، وهو يعلم أنني لا أميل الى نشر شعري في ديوان لأسباب كثيرة، وقدم لتلك القصيدة بمقدمة نثرية يقول فيها: (من الدرعمييَن أبي خالد وأبي راكان، والدرعمي بالإضافة أحمد) وهو يقصد بأبي خالد الأستاذ محمد القاضي شريك أبي راكان، الاستاذ عبدالله العوهلي في دار العلوم ومن تلك القصيدة: تتاجيكم أبا شادي القلوب وقافية بها يحلو النسيب أراك هجرت هذا الشعر حتى بكت للهجر قافية طروب وشعرك أعذب الأشعار حرفا وأنسبها إذا رقَّ الحبيب رأيت قوافل العشاق عطشى لشعر أنت مبدعه النجيب تمر موارد الشعراء تشكو وفيها للهوى أبدا لهيب فتسأل عن قوافيك اللواتي إذا ما لامست صبَّا يذوب تداوى من تتيمه الغواني وتأخذه العيون ولا يتوب جلبن له الهوى متنقباتٍ فكيف إذا تكشفت الجيوب أبا شادي، إليك الشوق يسري كما تسري الصبا وكما تؤوب إليك خواطري وحديث نفس له في كل جارحة دبيب قصائدك التي عزت رقاها لعل يضمها سفر قشيب يلم شتاتها ديوان شعر تباركه المحافل والأديب وفي الفترة الاخيرة عُينت إحدى بناته في قرية بعيدة عن الرياض فاضطر الى السفر معها مؤقتا ريثما يتم نقلها، ولكنه يعود الى الرياض في نهاية كل اسبوع، ومن هناك، من المهجر كما يسميه ابو راكان، يرسل قصائد الشوق والحنين الى اصدقائه «الدرعميين» نسبة الى دار العلوم، وقد فاجأني في يوم من الايام بقصيدة حنين وشوق، منها: مساء سُكَّر سُكَّر وأشواق لكم أكثر لقد صبحتكم شوقاً لرؤيتكم ولم أظفر أبا راكان ما زلتم مع القاضي لنا معشر لكم في القلب آيات من الحمد الذي يشكر موثقة بأعماقي وفي شعري إذا ينشر يؤيدني أبو شادي ومن في حبكم يجهر ويشهد صاحب الشورى بأن هواكمُ أكبر ويقصد بصاحب الشورى الدكتور عبدالله العثيمين، عضو مجلس الشورى. ومن القصائد غير المنشورة التي سبق ان بعثها اليّ قصيدة طويلة بعنوان «الحلوة المرة» أرادها معارضة لقصيدة «ياليل الصب» ولكنها غزل بالقهوة، ووصف لأصنافها المتعددة، يقول فيها: يا ليل الجفن يُسِّهده سمراء الحسن وسيِّده صفراء مذهبة تغري من ثغر الدلة مورده يتوهج مرشفها نورا شلال الضوء وعسجده يتواصل من فيها لفم الفنجان يشوقك مشهده تتضوع نكهتها عطرا فتعود لفكري شُرَّده هذا الفنجان ونشوته وأريج الهيل يؤيده عبق كالعطر تغشاه توهي الأغصان قلائده طعم كالمسك ورائحة كالعنبر عز مفنده لاينكر لذتها إلا معتل الذوق وفاقده أردت في هذه المقتطفات ان اكشف جانبا من الجوانب الشعرية المخفية في شخصية الشاعر مسافر، وهو جانب الشعر الاخواني الجميل الذي يتميز به، وهو شعر خاص يتداوله أصدقاؤه المقربون فقط وليس للنشر، ولكني رأيت نشر بعضه لأنه يكشف جوانب جميلة في شخصيته يجب ان يعرفها القراء ومحبو شعره.