يصعب علينا الدخول إلى القصيدة الحديثة من إحدى "بواباتها" أو "عتباتها" الممكنة، وهو ما يسميه بعض الدارسين بعلامات الشعرية "الخارجية"، مثل العنوان أو الحواشي أو "المناسبات" أو التمهيدات المرفقة و"المحيطة" بالقصيدة. وتبدو القصيدة في ذلك أشبه بالجسم المعتم والكثيف، ما لا نقوى على سبره، ولا اكتناهه، وإن توافر لنا في متن القصيدة، في بعض إبلاغاتها الصريحة أو الإيحائية، ما يدل عليها ويومىء إلى بعض إحالاتها. وهذا بخلاف القصيدة العمودية، التي كانت تتصدرها "مناسبة" القول الشعري، من دون أن يكون لها "عنوان" أساساً، ولكن من دون أن يشير متنها إلى إحالات "زمنية" بالضرورة. هكذا نتحقق من مفارقة لافتة: "زمنية" القصيدة العمودية خارجية بمعنى ما، تشير إلى واعز القصيدة، على أن تضاعيفها تجتنب "الموضعة" والتعيين وتنصرف إلى تجريب الأغراض والتباري بها، فيما تبتعد القصيدة الحديثة عن الزمنية في خارجها وتعول عليها في مبنى القصيدة. سعينا إلى هذا التنميط لغرض نقدي، إبرازي ليس إلا، لتناول قصائد أحمد زكي أبو شادي، الشاعر المصري الراحل 1892-1955، كما نتحقق منها في "الآثار الشعرية المجهولة" التي عمل على إعدادها للنشر الناقد ورفيق الشاعر وديع فلسطين، وصدرت اخيراً عن "دار الجديد". فقلما تخلو قصيدة من المجموعتين الشعريتين المنشورتين، "من أناشيد الحياة" و"إيزيس"، من "مناسبة" القول، طبقاً لما فعله شعراء العربية القدامى. وهو ما تشارك في فعله مقدِّم "الأعمال"، وفقاً لما فعله الشراح القدامى، والشاعر نفسه: فهذه قالها في مناسبة هجرته إلى أميركا، وتلك مهداة إلى الزعيم جمال عبدالناصر، وهذه من وحي 23 تموز يوليو 1953 انقلاب "الضباط الأحرار" في مصر... اكتفى الناقد فلسطين بشرح بعض الألفاظ المقعرة أو غير السارية في عربية اليوم، وبوضع "المناسبات" أحياناً، من دون أن يعمل على تحقيق القصائد وفق طريقة المجددين، أي الكلام النقدي عن القصائد، وعن المجموعتين الشعريتين، بما يفيد الظروف التحاورية التي تنهل منها القصائد وتصب فيها، سواء في تجربة الشاعر أو في بيئته أو مع محيطه. هكذا تصدر قصائد هاتين المجموعتين من دون إشارة إلى "أبوللو"، الحركة والمجلة التي أصدرها أبو شادي، ولا إلى هجرته إلى أميركا التي كتب فيها هذه القصائد وأسبابها، ولا إلى علاقاته بالشعراء العرب فيها، مثل "المهجريين" الذين يذكر عنهم في إشارة مقتضبة عدم ترحيب إيليا أبي ماضي في مجلة "السمير" بأبي شادي، على أنه "ليس من"هم. وكان أبو شادي قد وجد ضرورة، هو الآخر، في تعريف القارىء بظروف مناسبة القصيدة، واستوقفنا في هذه العملية كون القصيدة لا تختلف في مبانيها أو مضامينها، سواء كتبت في القاهرة أم في نيويورك. "المناسبة" تختلف، أما كيفية بناء القصيدة أو صلات القصيدة بزمانها الجاري فواحدة، أي أن القصيدة لا تبالي بمعنى ما بالتحقق من الزمنية في الشعر ومن تجلياتها. غير قصيدة في المجموعتين "تنطلق"، إذا جاز القول، من واعز، من دافع، من استثارة واقعة في ما يعرض للشاعر في حياته الجديدة: يلحظ شجرة معروفة في أميركا، لا خارجها، أو تأخر مجيء الربيع في سنة بعينها، أو استلامه باقة زهر يوم دخوله إلى المستشفى...وهي كلها حوادث تجري في يوم بعينه، لا تتكرر، وتحمل دلالات تجلت في هذا اليوم بالذات، لا في غيره، ما يعني أنها تمثل "إلحاحاً" على القصيدة، أو تمكيناً للشعر من أسبابه. أي أن الشعر يتصل بأسباب واقعة خارجه، وتدفعه في مسارات معنى جديدة ومفاجئة، ما لنا أن نتحقق منه في تضاعيف القصيدة بالتالي. إلا أن قراءة القصائد تخرجنا من الزمن ما أن نباشر الاقتراب من أبياتها الأولى، ذلك أن الحسية والتعيينية الشديدة والمعطيات الحدثية التي لها أن تحملها أسباب التعالق بالزمن كما تتحدد في "المناسبة"، تختفي أو لا تبرز في مدى القصيدة: نتحقق في إحدى القصائد من وجود شحاذ أمام "بنك" وهو اللفظ الوحيد في مدى القصائد الذي يشير إلى دخول مسارد الألفاظ ألفاظاً جديدة، معروفة في عهد الشاعر، ومن حصول محاورة بينه وبين المتكلم في القصيدة، ومن أن القصيدة تنقفل على مضي الشحاذ في طريقه، إلا أن هذه الوقفة السردية تكاد تكون الوحيدة في القصائد كلها. هذا ما نتحقق منه في سبيل آخر، وهو لجوء الشاعر إلى مناسبات واقعة خارج مشاهداته أو معايشاته، مثل "المناسبات" الوطنية، التي تتوزع من "انقلاب" "الضباط الأحرار" في مصر في العام 1952 وإسقاط النظام الملكي إلى تعيين الأمير فيصل السعودي ولياً للعهد وغيرها. وهي كلها مناسبات لا ترينا مجالاً لمعاينة، أو لتعيين، ذلك أن الشاعر ينطلق منها لقول شعري يتخذ من "الصفات"، ومن التباري في مدحها أو ذمها في بعض الأحيان، ميداناً له. يصدر الشعر عن محرك له، خارجي، أكثر مما هو داخلي، وإن كان ينتهي إلى عملية تملكية تخفي بقوتها، بعدم وجود مسافة بين القائل وما يقوله، عملية التملك نفسها. ذلك أن الناطق ينسب الأشياء والأحداث والأحوال إليه في كيفية مبرمة، لا فكاك لها منه، وهو نوع من الانتشار "الذاتوي" في العالم المحيط. وهو ما يظهر كذلك حين ينتقل الشاعر إلى مخاطبة شخص، أو شيء، إذ نراه يقبل عليه إقبالاً يمحضه الصفات والأفعال والحسنات في معظم الأحيان، بوصفه واهب المعاني. عودة إلى عالم المواضعات التقليدي في الشعر القديم، مثلما تجلى في تتالي الأغراض، وسبل انبنائها الشعري، إلا أن هذه العودة تتخذ في هذا الشعر سبيلاً أكثر تسامياً، يتمثل في إلحاحات أبي شادي عليه، إذ يقول: "مجده أي شعر أبي شادي مجد السمو إلى أعز طباق". وهو ما نراه بيناً في مواضع مختلفة من القصائد إذ تصبو دوماً إلى عالم من القيم المتسامية، على أنها ما يمنح الشعر قيمته على غيره. وهو ما قاله أبو شادي في قصيدة "الفنان" في مجموعة "الشفق الباكي": "تفتش في لب الوجود معبراً عن الفكرة، العظمى به الألباء، تترجم أسمى معاني البقاء، وتثبت بالفن سر "الحياة". وكل معنى يرف لديك في "الفن" حي. إذا تأملت شيئاً قبست منه الجمال، وصفته كحبيس في فنك المتلالي". مثل هذه القصائد قليل في شعر أبي شادي، ونراه يستعيد في أحيان كثيرة مواضعات شعرية معروفة، وإن تخللها التسامي الذي طلبه من الشعر وفيه، أي التأكيد على "مثالية أخلاقية" هي مجال الحكم على الشعر. ولقد بلغ هذا الموقف عند أبي شادي حدوداً عليا إذ جعله أشبه بالعقيدة له، كما تمثلنا ذلك في "دعوى" مجلة "أبوللو" لنفسها، مثلما دافع عنها وروج لقضاياها. يقول أبو شادي في العدد الثالث من المجلة: "إنما الشعر هو البيان لعاطفة نفاذة إلى ما خلف مظاهر الحياة لاستكناه أسرارها وللتعبير عنها". بل بلغ الدفاع عن هذا الموقف حدوداً قلما بلغها سابقاً، وهي أن "الموقف" نفسه أي كون الشعر بياناً عاطفياً لما يقع خلف الظواهر والتعبير عنها بات يعين الشعر نفسه، لا ضوابط الشعر والنثر المتوارثة، إذ يتابع أبو شادي تعريفه السابق ويؤكد: "فإذا جاء هذا البيان منظوماً فهو شعر منظوم وإذا جاء منثوراً فهو شعر منثور وجميع الآداب العالمية الناضجة تعترف بهذين القسمين للشعر وإن أعطت للشعر المنظوم الصدارة". إلا أن أبا شادي لم يجرب كثيراً هذا الشعر المنثور سوى في قصائد قليلة نلقى بعضها في أعداد "أبوللو"، كما في هاتين المجموعتين. وهذا ما يستوقف القارىء في هذا الشعر، إذ أنه يبدو بعيداً عن تجديدات مزامنة له، مثل تجربة اللبنانيين أو العراقيين وغيرهم. كما لو أن الشعر "مصفح" تماماً ضد كل ما ينزله إلى عالم الوقائع، طبقاً لما يقوله المتكلم في قصيدة عن كونه "إن تعالت به السنون"، يبقى دائما "يتعالى". ففيما خلا قصيدتين في المجموعتين المنشورتين يبدو أبو شادي بعيداً عما كان قد جربه غير شاعر عربي في توزيع الأبيات الشعرية، وتنويع القوافي. وهو لا يقبل على تجديد الشكل أو البناء النحوي، أو التركيب الوزني والإيقاعي في أي صورة من الصور. بل يبدو بناؤه النحوي تكراري التركيب، ويخلو من اجتراحات أو اجتهادات في البناء، كنا نلقاها عند أحمد شوقي أو خليل مطران، فكيف عند سعيد عقل ومحمد مهدي الجواهري وغيرهما في النسق العمودي، فكيف في خارجه. وهو بعيد كذلك عن تجارب المهجريين، ويحق لأبي ماضي القول عنه بأنه "ليس منا"، إذ أن شعر أبي شادي يبقى بعيداً عن الحمولات التجديدية، الفكرية والتأملية، التي تضمنها شعر المهجريين، كما عن "تليين" العبارة و"ترقيقها"، مثلما تجلت في تراكيبهم النحوية. ذلك أن أبا شادي ورفاقه طلبوا تسامياً في الشعر ومنه التعويل على الأساطير القديمة، الإغريقية والفرعونية وغيرها، يبعده عما كان عليه في "ديوانيته" أو "إخوانيته" المصرية، مقتدين بما دعا إليه خليل مطران في دعاويه عن الشعر، أي الحديث عن كونه مدونة "الضمير" و"الوجدان". فهذان هما ما يملي على الشعر بنيته، في مسعى يبدو تملكياً له فيما يستعيد، واقعاً، متن الشعر المحفوظ والمعتبر.