لم يعد النقد مرتهنًا للذوق، والانطباع. ومن ثم تهمشت المناهج السياقية، لأنها تتفسح لهذه المناهج الذوقية، المفتوحة على كل الاحتمالات. النقد العربي القديم لم يكن كما يتصوره النقد الحديث. لقد مرَّ بمنعطفات مهمة، لو وعاها واستوعبها الأدباء الذين عاصروا نشوءها لكان لها شأن مهم. [نظرية النظم] -على سبيل المثال- والتي طرحها [الجرجاني] تعدُّ بحق عدولاً واضحًا عن أنماط النقد العربي السائدة، ومن قبله اكتشاف [علم العروض] وتأسيس [علم البلاغة]. نظرية الجرجاني نسلت من عباءة الإعجاز البياني للقرآن، أو قل هي لنزع فتيل الفتنة بين المعتزلة، وأهل السنة والجماعة، حول التحدي بالإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. المعتزلة يعتقدون ب(الصرفة)، أي أن الله صرفهم عن محاكاته، ولو لم يصرفهم لأتوا بمثله، وتلك بعض ضلالاتهم، التي من أخطرها وأضرها القول ب{خلق القرآن}. هذه النظرية الوسطية لفتت نظر النقاد إلى أهمية نظم الكلام، كيف تنتقي الكلمة، وكيف تركِّب الجملة، وكيف تصوغ العبارة، وكيف تنشئ الأسلوب. هذا الكم الهائل من المصطلحات، والتصورات ينبئ عن دفائن معرفية، مشتتة في كتب الأدب. لو قرئ [الجاحظ] قراءة معمقة لبدت إشارات نقدية يمكن تحويلها إلى فرضيات ثم تجهيزها لتكون نظريات. الغرب مثلما يأخذ الخامات من أرضنا، ثم يصنعها، ويعيدها إلينا، يأخذ التراث عبر ملايين المخطوطات المسروقة ثم يهضمها ويتمثلها، ويعيد بضاعتنا إلينا. ونحن نقبل بذلك، ونسلم له، إنه عين التيه، والغباء المعتق. إرهاصات التحول، والاكتشاف واكبتْ المسيرة النقدية منذ العصر الجاهلي، مرورًا بالعصور الذهبية. ومرحلة التوقف، والاجترار أفاقت على وقع حوافر خيل [نابليون] حين دخلت [الأزهر]. لقد ارتمينا بأحضانه، وسلمنا له القيد، وروجنا لنظريته، ومناهجه. المعول اليوم على كليات الآداب، واللغة للتحرر من مغبة التبعية، والتقليد. دعونا نرحل بالتراث، ولا نرح إليه، ونستقبل الآخر بندية، لا بخنوع، واستسلام. فنحن نملك الإمكانيات. بقي أن نتخلص من (الهزيمة النفسية) التي عطلت كل الإمكانيات، ومكنت للآخر من كل شيء.