السبب وراء طرح التساؤل الوارد في عنوان هذا المقال هو أنّي قد وقفتُ على نصّ للشيخ زكريّا الأنصاريّ (ت926ه) في حاشيته على شرح ابن الناظم (ت686ه) لألفيّة ابن مالك (ت 672ه) قال الشيخ زكريّا الأنصاريّ في تعليقه على قول الشاعر: «يا لعنة الله والأقوام كلّهم... والصالحين على سمعان من جار الشاهد في (يا لعنة الله)، حيث حذف منه المنادى، والتقدير: يا قوم لعنة الله، و(سمعان) بكسر السين وفتحها: رجل، (ومن جار) في محلّ نصب تمييز، أيْ: من جهة كونه جارًا»(1) استوقفني في هذا النصّ قول زكريا الأنصاريّ: إنّ شبه الجملة من الجارّ والمجرور في محلّ نصب تمييز، والمقرَّر في قواعد النحويّين أنّ التمييز لا يكون إلا اسمًا مفردًا كما هو واضح من التعريف الذي ارتضاه الشيخ زكريّا الأنصاريّ نفسُه للتمييز، وهو «اسم نكرة فضلة يرفع إبهام اسم، أو إجمال نسبة»(2)، وينصّ ابن هشام (ت761ه) عندما تعرّض إلى الفروق بين التمييز والحال إلى أنّ من الفروق بينهما أنّ «الحال تكون جملة ك(جاء زيد يضحك)، وظرفًا نحو: (رأيت الهلال بين السحاب)، وجارًّا ومجرورًا نحو: (فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ? )، والتمييز لا يكون إلا اسمًا»(3)، ويعلّق المحقّق بقوله: «فلا يجيء[أي: التمييز] جملة، ولا ظرفًا، أو جارًّا ومجرورًا متعلّقين بمحذوف كما كان الحال في الحال»(4). ولم ينصَّ أحدٌ -ممن وقفت على كتبه-على أنّ الجارّ والمجرور يرد في محلّ نصب تمييز، أمّا قول المعربين: عبارة (في محلّ كذا) فإنّها لا ترد باستقراء كلامهم إلا في إعراب الأسماء المبنيّة، أو الأفعال المبنيّة، أو الجمل المحكيّة(5)، أو إعراب أشباه الجمل (الجارّ والمجرور أو الظرف)(6)، أو إعراب الجمل التي لها محلّ من الإعراب(7)، والتمييز لا يقع في باب الإعراب المحلّيّ؛ لأنّه اسم معرب، فهو اسم مفرد أيْ: مقابل لمصطلحي الجملة، وشبه الجملة. نعم، قد يرد التمييز مجرورًا ب(من)، ولكنّه يخرج عن باب التمييز، يقول في ذلك زكريا الأنصاريّ: «أمّا قولهم في العدد المركّب: (أحد عشر من الدراهم)، وفي العقود: (عشرون من الدراهم)، ونحو ذلك فليس المجرور ب(من) تمييزًا اصطلاحًا؛ لأنه معرفة؛ ولأنّه فرع المنصوب، وشرطه الإفراد»(8)، وفي ذلك أيضًا يقول مصطفى الغلاييني: «إنْ قلتَ: جاءني ثلاثة من الرجال فليس هذا من جرّ تمييز العدد بمن، بل هو تركيب آخر حُذِفَ فيه التمييز، والأصل: ثلاثة أشخاص من الرجال فالجارّ والمجرور بيان للتمييز المقدّر في موضع النعت له»(9). ولعلّ الذي جعل كثيرًا من النحويّين يسمّون المجرور ب(من) في معدود بعض الأعداد تمييزًا هو أنّ غالب ورود المعدود منصوبًا على التمييز إلا فيما كان معدودًا للأعداد من ثلاثة إلى عشرة فهو جمع مجرور بالإضافة، أو ما كان معدودًا للأعداد مئة وألف ومليون فهو مفرد مجرور بالإضافة؛ لذا فالأولى أن يسمى معدودًا تجنّبًا للبس. ويستفاد من نصّ الغلاييني السابق أنّ محلّ الجارّ والمجرور في مثل: جاء ثلاثةٌ من الرجال النصب على النعت لتمييز محذوف، والتقدير: جاء ثلاثةٌ أشخاصٍ من الرجال، فالجارّ والمجرور الوارد في الأمثلة السابقة ليس في محل نصب تمييز كما قال الأنصاريّ في إعرابه ل(من جار)، وإنّما هو تركيب مستقلّ في محل نصب نعت للتمييز المحذوف، ويبدو لي من مراجعة باب التمييز في كتاب زكريّا الأنصاريّ أنّه كان واعيًا بأنّ الجارّ والمجرور لا يقع في محل نصب تمييز، ولكنّه قد تجوَّز في العبارة فقط. ... ... ... الحواشي: (1) الأنصاريّ، زكريّا بن محمّد: الدرر السنيّة حاشية على شرح الخلاصة، تحقيق: وليد بن أحمد الحسين، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1432ه/ 2011م، ج2، ص820. (2) الأنصاريّ، زكريّا بن محمّد: الدرر السنيّة حاشية على شرح الخلاصة، ج1، ص 558. (3) الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق وشرح: عبد اللطيف محمّد الخطيب، مؤسّسة دار البلاغة، الكويت، دولة الكويت، الطبعة الثانية، 1441ه/ 2020م، ج5، ص408. (4) الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق وشرح: عبد اللطيف محمّد الخطيب، ج5، ص408، (تعليق المحقّق، الحاشية ذات الرقم: 6). (5) انظر الغلاييني، مصطفى: جامع الدروس العربيّة، المكتبة العصريّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1330ه/ 1912م، ج1، ص27، ص28. (6) انظر الأنصاريّ، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق وشرح: عبد اللطيف محمّد الخطيب، ج5، ص271-ص353؛ وانظر قباوة، فخر الدين، دار القلم العربيّ، حلب، سوريا، الطبعة الخامسة، 1409ه/ 1989م، ص314-ص321. (7) انظر قباوة، فخر الدين: إعراب الجمل وأشباه الجمل، ص33-ص36. (8) الأنصاريّ، زكريّا: الدرر السنية حاشية على شرح الخلاصة، ج1، ص563. (9) الغلاييني، مصطفى: جامع الدروس العربيّة، ج 3 ، ص 117 ** **