ذكر ابن آجرّوم (ت723ه) في متنه الشهير الآجرّوميّة أنّ من الحروف التي تجزم فعلًا مضارعًا واحدًا ألم وألمّا، وهذان الحرفان لم يردا -بحسب اطّلاعي- في مصنّفات غالب النحويّين، وبخاصّة المؤلّفون في حروف المعاني مثل: أبي القاسم عبد الرحمن الزجّاجيّ (ت337ه) في كتاب حروف المعاني، وعليّ بن محمّد الهرويّ (ت415ه) في الأزهيّة في علم الحروف، وأبي الحسن الرُّمّانيّ (ت384ه) في كتاب معاني الحروف، وعلاء الدين الإربليّ (ت631ه) في جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، وأحمد بن عبد النور المالقيّ (ت702ه) في رصف المباني في شرح حروف المعاني، وابن أمّ قاسم المرادي (ت748ه) في الجنى الداني في حروف المعاني، وابن هشام الأنصاريّ (ت761ه) في مغني اللبيب عن كتب الأعاريب؛ والسبب في ترك ذكرهما -في ظنّي- أنّ ألم مركبّة من همزة الاستفهام الدالّة على التقرير ولم الجازمة، وألمّا مركّبة من همزة الاستفهام الدالّة على التقرير ولمّا الجازمة، وليست ألم وألمّا حرفين مستقلّين عن لم ولمّا، وكنتُ أتساءل لمَ لجأ ابن آجرّوم إلى تمييزهما عن لم ولمّا؟ وما سنده في ذلك؟ ولمحاولة الإجابة عن التساؤل الأول فقد راجعتُ بعضًا من شروح الآجرّوميّة بغية أن أجد اجتهادًا من الشارحين في تسويغ ذلك، وقد انقسم الشارحون قسمين، منهم من سوّغ لابن آجرّوم ذكر ألم وألمّا في الحروف الجازمة، ومنهم من لم يعلّق على ذلك. ومن الذين سوّغوا عدّ ألم وألمّا من جوازم الفعل المضارع الشربينيّ (ت977ه) الذي عزا تكرار ابن آجرّوم لأداتي جزم مرّتين بقوله: «ألم وألمّا هما لم ولمّا كرّرهما المصنّف مع الهمزة تقريبًا على المبتدئ»(1) فالسبب من وجهة نظر الشربيني هو التسهيل على مبتدئي المتعلمين لعلم لنحو، ومنهم إبراهيم اللقانيّ (ت1041ه) الذي قال: «أمّا عدّ المصنّف لهما ]أيْ: ألم وألما[ من الجوازم الثمانية عشر فتجوّز راعى فيه الصورة»(2) فالسبب في إفراد ألم وألمّا من وجهة نظر اللقانيّ التجوُّز الذي دعا إليه مشابهة ألم للم، ومشابهة ألمّا للمّا، ويعلّق أبو النجاء بقوله: «ظاهر كلامه ]أيْ: ابن آجرّوم [أنّهما أداتان مستقلّتان، وليس كذلك بل هما لم ولمّا زيد عليهما همزة الاستفهام التقريريّ، وهو حملك المخاطب على الاعتراف بأمر استقرّ عنده ثبوته أو نفيه، فقول الشارح في ألم وألمّا حرف تقرير وجزم فيه تسمُّح لما عرفتَ من أنّ التقرير من الهمزة، والجزم من لم، وقوله: ونشرحْ مجزوم ب(ألم) فيه تسمُّح أيضًا، فإنّ الجازم هو (لم) كما عرفت، ولا دخل للهمزة في الجزم فيقال: هو من ذكر الكلّ وإرادة الجزء»(3) يفسّر أبو النجاء إدراج ألم وألمّا في الجوازم بأنّه تسمّحٌ فيه مجازٌ مرسلٌ علاقته إيراد الكلّ مرادًا به الجزء، وهذا معناها أنّ الجازمين لم ولمّا وقد عبّر عنهما بألم وألمّا من باب التجوّز بإيراد الكلّ مقصودًا به الجزء. ومن الشارحين للآجرّوميّة الذين لم يعلّقوا على إيراد ألم وألمّا السنهوريّ (ت889ه) الذي يؤكّد أنّ ألم وألمّا «راجعان إلى لم ولمّا؛ لأنّ الهمزة للاستفهام فليست من الحروف الجوازم»(4)، ومنهم الفاكهيّ (ت972ه) الذي قال عن ألم وألمّا «ألم وهي لم بزيادة همزة الاستفهام، ولا مدخل للهمزة في العمل نحو: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح، الآية: 1) فألم حرف تقرير وجزم، ونشرح مجزوم بألم، وعلامة جزمه السكون. ورابعها أختها ألمّا نحوُ: فقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع»(5)، ومنهم العمريطيّ (ت989ه) الذي نظم متن الآجرّوميّة، ولكنّه أغفل ذكر ألم وألمّا في جوازم الفعل المضارع، وذلك عند قوله: وجزمه بلم ولمّا قد وجب ... ولا ولام دلّتا على الطلب(6) ويفهم من إهمال للعمريطي لهما أنّه يراهما مرتبطتين بلم ولمّا، ومنهم أيضًا العشماوي الذي اكتفى بالقول: إنّ الهمزة للتقرير، ولم ولمّا حرفا جزم ونفي وقلب(7)، ومنهم التكريتيّ (ت1360ه) الذي لم يعلّق على إيراد ألم وألمّا في جوازم الفعل المضارع إذ قال: «والثالث: ألم نحوُ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح، الآية: 1) ... والرابع: ألمّا أصلها لمّا قُرِنَتْ بها همزة الاستفهام التقريريّ كما في ألم كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلتُ ألمّا أصحُ والشيبُ وازعُ»(8) ومنهم محمّد محيي الدين عبد الحميد (ت1973م): الذي لم يقدّم تسويغًا لذلك إذ قال: ألم هي لم زيدت عليها همزة الاستفهام التقريري، وألمّا هي لمّا وزيدت عليها همزة الاستفهام التقريريّ كذلك(9) ويفهم من هذه النقولات أنّ أصحابها يميلون إلى عدّ ألم وألمّا هما لم ولمّا مع زيادة الهمزة للتقرير، لكنّها لا تسوّغ ورودهما ضمن حروف الجزم. وللإجابة عن التساؤل الثاني، وهو ما مصدر ابن آجرّوم في عدّ ألم وألمّا من الجوازم؟ أقول: إنّي وجدتُ أنّ القول بأنّ ألم وألمّا من الحروف الجازمة كان قديمًا يعود إلى القرن الثاني الهجريّ، فقد وجدتُ أنّ خلفًا الأحمرَ (ت180ه) عند حديثه عن حروف الجزم قد قال: «وهي: لم ولمّا وألم وألمّا وأولم وأفلمّا»(10)، وأيضًا وجدتُ أنّ أبا القاسم الزجّاجيَّ (ت337ه) قد قال: «وهي لم ولمّا وألم وألمّا ...»(11) والحريريّ (ت516ه) الذي اكتفى بإيراد ألمّا في ملحة الإعراب عند قوله: ومن حروف الجزم أيضًا لمّا ... ومن يزد فيها يقل ألمّا(12) وقال في شرح الملحة «وقد تدخل الهمزة على لم ولمّا فيصير في الكلام معنى التقرير كقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح، الآية: 1)، وقد تكون بمعنى التوبيخ كقول المولى لعبده: ألم أحسن إليك؟ وعلى اختلاف المعاني، فالفعل المستقبل مجزوم بعدهما»(13)، وألحظ أنّ الحريريّ ذكر عملهما الجزم في المضارع، ولكنّه لم يجعلهما مستقلتين عن لم ولمّا كما فهمتُ من عبارته. وهنا يلوح لي سؤال هو: هل اطّلع ابن آجرّوم على المقدمة في النحو المنسوبة إلى خلف الأحمر أو الجمل في النحو للزجاجيّ أو ملحة الإعراب للحريريّ؟ وهنا يحسن أن أشير إلى أنّ هذه المقدّمة في النحو مشكوك في نسبتها إلى خلف الأحمر البصريّ، ولعلّ الأقرب إلى الصواب أن تُنسَبَ إلى عليّ بن المبارك الأحمر الكوفيّ (ت194ه)، لأنّ الخلط بين الأحمرين قديم، قال أبو الطيّب اللغويّ: «ويحكون المسألة عن الأحمر، فلا يدرون أهو الأحمر البصريّ أو(14) الأحمر الكوفيّ»(15)، ويفسر عزّ الدين التنوخي ذلك بقوله: «من أسباب هذا اللبس أن يُذكَر في الكتب الأحمر غير مسمّى ولا منسوب، فيخال للقارئ أنّ هذا الأحمر هو خلف بن حيّان الأحمر البِصْريّ؛ لأنّه أشهر»(16)، ولأنّ غالب ما في المقدّمة من آراء تنحو منحى مذهب الكوفيّين، والآجرّوميّة فيها تأثّرٌ واضح بنحو الكوفيّين، قال السيوطيّ عن الآجرّوميّة: «استفدنا من مقدّمته أنّه كان على مذهب الكوفيّين في النحو؛ لأنّه عبّر بالخفض، وهو عبارتهم، وقال: الأمر مجزوم وهو ظاهر في أنّه معرب وهو رأيهم، وذكر في الجوازم كيفما والجزم بها رأيهم»(17)، ويترجّح عندي اطّلاع ابن آجرّوم على الجمل في النحو للزجّاجيّ، وملحة الإعراب للحريريّ؛ نظرًا لشهرتهما، وتداولهما، وكثرة شروحهما، وقد يكون ابن آجرّوم قد اطّلع على المقدّمة في النحو المنسوبة إلى خلف الأحمر، ولكنّ هذا احتمال ضعيف؛ لأنّها غير مشهورة، وليست متداولة بين طلاب النحو، ولا أعرف لها شروحًا -بحسب اطّلاعي-، ولكنّ الفضل يعود إلى الأحمر الذي تنسب إليه المقدّمة في النحو؛ وذلك في سبقه إلى ذكرهما في حروف جزم الفعل المضارع، وتجدر الإشارة إلى أنّ ذكر هاتين الأداتين في جوازم المضارع لا يستقيم؛ لأنّهما تعودان إلى لم ولمّا، ولأنّ المتون العلميّة مبنيّة على الاختصار الذي يناسب المبتدئين، وقد اعترض ابن النحّاس على من عدّ ألم من الجوازم بقوله: «من النحويّين من يقول: ألم من حروف الجزم، وذلك خطأ؛ لأنّ الألف للاستفهام، والمعنى على الإيجاب، لأنّ ألف الاستفهام هاهنا يؤدّي عن معنى التقرير والتوقيف فيصير النفي إيجابًا، والإيجاب نفيًا»(18). ... ... ... الحواشي: (1) الشربيني، محمّد بن أحمد: نور السجيّة في حلّ ألفاظ الآجرّوميّة، عني به: سيّد بن شلتوت الشافعيّ، دار المنهاج، جدّة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1434ه/ 2013م، ص123. (2) اللقانيّ، إبراهيم: شرح الآجرّوميّة، تحقيق: سعود الخنين، جامعة الإمام محمّد بن سعود، الرياض، المملكة العربيّة السعوديّة، الطبعة الأولى، 1438ه/ 2017م، ج1، ص451. (3) أبو النجاء، حاشية العلّامة أبي النجاء على شرح الشيخ خالد الأزهريّ، المكتبة الأزهريّة للتراث، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1434ه/ 2013م، ص50. (4) السنهوريّ، عليّ بن عبد الله: شرح الآجرّوميّة في علم العربيّة، تحقيق: محمّد خليل شرف، دار السلام، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1429ه/2008م، ج1، ص217، ص218. (5) الفاكهيّ، عبد الله بن أحمد: شرح الآجرومية، تحقيق: عرض عاتق ناصر، دار ابن عبّاس، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1431ه/ 2010م، ص131. (6) انظر العمريطيّ، يحيى بن موسى: الدرّة البهيّة في نظم الآجرّوميّة، عني به: سيّد بن شلتوت الشافعيّ، دار المنهاج، جدّة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1434ه/ 2013م ص413. (7) انظر العشماوي، عبد الله: حاشية العلّامة الشيخ عبد الله بن الشيخ العشماوي على متن الآجروميّة في قواعد العربيّة، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1357ه/ 1938م، ص25. (8) التكريتي، داود بن سلمان: شرح منظومة الآجرّوميّة، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1436ه/ 2015م، ص228. (9) انظر عبد الحميد، محمد محيي الدين: التحفة السنية شرح المقدمة الآجرومية، دار الفيحاء، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1414ه/ 1994م، ص70. (10) الأحمر، خلف: مقدّمة في النحو، تحقيق: عزّ الدين التنوخي، وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1381ه/ 1961م، ص48. (11) الزجاجيّ، عبد الرحمن بن إسحاق: الجمل في النحو، تحقيق: عليّ توفيق الحمد، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، الطبعة الأولى، 2016م، ص262. (12) نبّهني الصديق العزيز عليّ بن عبد الله الشقيران إلى أنّ الزجّاجيّ والحريريّ قد تحدّثا عن ألم وألمّا في الجمل في النحو وملحة الإعراب، فجزى الله أبا طلال عنّي كلَّ خيرٍ. (13) الحريريّ، القاسم بن عليّ بن محمّد: شرح ملحو الإعراب، تحقيق: غرّيد يوسف الشيخ محمّد، دار الكتاب العربيّ، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1425ه/ 2004م، ص124. (14) لعلّ الصواب: فلا يدرون أهو الأحمر البصريّ أم الأحمر الكوفيّ؛ لأنّ أم تعادل همزة التعيين. (15) اللغويّ، عبد الواحد بن عليّ، مراتب النحويّين، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1375ه/ 1955م، ص1. (16) الأحمر، خلف: مقدّمة في النحو، ص10. (17) السيوطيّ، جلال الدين: بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، مصر، 1384ه/ 1965م، ج1، ص238. (18) ابن النحّاس، أحمد بن محمّد بن إسماعيل: إعراب القرآن، تحقيق: زهير غازي زاهد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1434ه/ 2013م، ص1108. ** **