لأكثر من أربعة عقود من العطاء الثقافي في مشهدنا المحلي قدمت الأندية الأدبية ما بوسعها تقديمه تبعًا لإمكاناتها المادية، وما يتيحه لها «المكان»، من إقامة فعالياتها، فيما كان بعضها - ولا يزال - يقيم بعض فعالياته إما من خلال المراكز الثقافية، أو الحضارية، أو قاعات الفنادق، فيما أفلح بعضها في إقناع داعمين ومتبرعين إما باستكمال إقامة مبانٍ جديدة، أو إقامة بعض الفعاليات، أو تمويل بعض جوائزها. لم تكن خارطة العمل الثقافي، وتحدياتها، وتحولاتها خلال العقدين الأخيرين، غائبة عن (16) نادياً أدبياً في مختلف مناطق المملكة؛ إذ كان أول مؤشرات «المحاولة» بالانتقال من (الأدبي) إلى (الثقافي) أولى «المكاشفات» بأن التحول إلى هذا الوسم من العمل الثقافي على خارطة العمل البرامجي لم يتجاوز إضافة كلمة الثقافي على لافتة النادي، ومطبوعاته، أمام تحديات متنامية، وتحولات ثقافية مرحلية؛ ما جعل من بعض الأندية الأدبية تسعى إلى تطوير آليات النشر بالشراكة مع دور عربية ذات شهرة في تسويق الكتاب، وأقام «الملتقيات»، وأطل على ما يمكنه من الجمهور بإقامة المسابقات الأدبية، وتنفيذ العديد من «المبادرات» خارج صندوق النمطية (الموسمية)، التي أحاطت المكانة.. والمكان.. بصورة ذهنية، أشبه ما تكون بالأسوار التي تزداد ارتفاعاً وإحاطة بالمكان، التي لم يعد صوت المنبر قادراً على تسلقها! وفي حال مماثلة، وعلى الشاطئ (الآخر) من العمل الثقافي، يجد المتابع الحال نفسها: إما العقد (العملي) بين الثقافة والفنون، وبين جمهور الأدب والثقافة والفنون، وما يخيم على معظم فروعها، وعامة أنشطتها من الصورة ذاتها.. إذ تتعدد الفنون.. أما الثقافة فواحدة، ذلك الكائن الحي، والاحتياجات الجماهيرية المتزايدة؛ ما جعل من (قوادم) الأدبية، و(خوافي) الفنون، لم تعد قادرة على التحليق في سماوات (الثقافة) المنفتحة على آفاق الفنون، وذكاءات أذرعتها في إنتاج وإدارة وتسويق المحتوى الثقافي. لم تعد قضية التنوع في تقديم فنون الثقافة بالأساليب التقليدية، تبعاً لطاقة المكان، ومحدودية الإمكانات، بذهنية (من كل بستان زهرة)، قادرة على جذب جمهور تُشكل فيه نسبة الشباب قرابة ثلثي السكان؛ ما يجعل من مواسم الشتاء، أو مواسم الصيف، خارج ديناميكية العمل الثقافي، وخارج سياق فنونها (المستدامة). ومن يشهد حالة «الركود» الموسمية لعامة الأندية الأدبية، وفروع الجمعية السعودية للثقافة والفنون، التي أشبه ما تكون بحالة «احتضار» الأداء، أمام ما أعلنته وزارة الثقافة من استراتيجيتها (الثقافية) المتوثبة، الطموحة، التي ستسعى الوزارة من خلالها إلى مواكبة رؤية المملكة (العالمية) 2030، التي تفترض ابتداء أن تصبح المؤسسات الثقافية «مصانع» إنتاج ثقافي، تخلق حالة من «الإحلال» الثقافي: قيمًا، ورؤية، ورسالة، وأهدافًا ماثلة في مشهدنا الثقافي. القضية ليست انتصارًا لكيان ثقافي، وهدمًا لآخر، أو انتقاصًا من تجربة وتكهنات بمثالية أخرى، أو إعلانًا عن نجاح سابق لأوانه للمراكز الثقافية، بوصفها مطلبًا مرحليًّا، إنما يكمن الرهان في «الاحتكام» إلى إعادة استقراء لفهم المرحلة الثقافية، وتنافسيتها محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، وإلى تقييم تجربة الأندية الأدبية، والخروج بالدروس (المستفادة) في تطوير العمل الثقافي، في صيغ مؤسسية، وبرامجية، تتكامل فيها فنون الثقافة: الإبداعية، والبصرية، والضوئية، والسمعبصرية، وفنونها الأدائية، وذكاءاتها الاصطناعية، تحت قبة مساء واحد، في مراكز تشع ثقافة، وتنهمر ثقافة، في أروقتها مشاهد.. وشواهد استدامة الثقافة.. التي تسد حاجات الثقافة.. واحتياجات المثقفين.. بإشباع ميول الجماهير!