لعل أبرز ما يميز عنوان ديوان (أطواك الشوك) للشاعر السعودي جاسم عساكر أنه يستثمر الدلالة في المألوف اللغوي ليشكّل عنواناً انزياحياً دالاً على مضمر مقولة المجموعة الأساسي، فالدلالة الرئيسة للفظة (طوق) هي ارتباطها بالحلي والزينة مما يحيط بالرقبة، لكننا نرى التسمية بدلالتها على المُسمّى، قد قُضّتْ سكينتها، ابتداء من عناوين الكتب في تراثنا العربي، وهنا يبرز عنوان (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي، الذي عالج فيه أحوال الألفة والآلاف، ومروراً ب (أطواق الذهب في المواعظ والخطب) لجار الله الزمخشري الذي نحى فيه نحو خطابات المواعظ والإرشاد، وإذا تأملنا تسميات الشعراء لهذه اللفظة، فأوّل ما يقع عليه النظر (طوق الياسمين) لنزار قباني الذي يستثمر فيه استعمالات الطوق بسوار الورد، لتحضر بعد ذلك استعمالات مجازية في عرف العامة والشعراء (طوق النجاة، طوق الحنين، طوق الشوق...) فالإمكانيات الدلالية لهذه اللفظة تتحول إلى مساراتٍ ومسارب أخرى عند عساكر، لعل أقربها اقتران هذه اللفظة بالورد ومشتقاته، وهو استعمال دال في عمقه على معاني إيجابية جمالية مبهجة في مواجهة قبح الحياة، نظراً لاقترانها بأحد المباهج التي تسرّ العين، من دون أن ننكر استعمال لفظة الورد في دلالات سلبية كما فعل الفرنسي شارل بودلير في ديوانه الشهير (أزهار الشر)، لكن الطوق المقترن بالشوك عند جاسم عساكر يأخذ الحسي من الصورة ليعبّر به عن المعنوي، فيحطم مألوف الدلالة، فباقات الزهور تتحول إلى باقات أشوك على خلاف العرف اللغوي، وفي ذلك دلالات مضمرة يكشف الديوان ماهيتها عندما تقترن بأحوال الموت والغياب والحزن، ومآس الحياة التي تملأ قاع الروح بالوحشة، فيفيق الزهر في شفة المعنى (ص3)، لتصبح القصيدة فانوساً يُضيء ظلمة الحياة، ويزيل أشواك المعنى وآلامه، إنها الحلم الجميل الذي يسعى إلى تجميل كوابيس الواقع بالمجاز. إن الصدق الفني والواقعي يشكلان ميزة أساسية في المجموعة سواء من خلال صورة الحنين الدائم والشفاف للأم، أو الصديق، أو الوطن، أو الحزن والوجع الذي يفرض منطقه على القصيدة من خلال خطف الموت لأعز من نحب (الابن)، ولو بحثنا في مضمرات نصوص المجموعة لوجدنا سيطرة لمقولة الحزن الذي ينمّ عن حساسية مفرطة من الشاعر/ الإنسان في مواجهة كوابيس كثيرة تفرضها الحياة على الإنسان وتشكّل تجربة غنية للشاعر، فتحضر صورة الأم، بوصفها وطناً ومرفأ ضامناً للحنان والدفء: يا مرفأ دفءٍ من نبضاتٍ لستُ أسمِّيهِ سوى أحضانْ فمرفأ الدفء بكل ما يوحيه من استقرار وسكينة ما هو إلا ذاك الحضن النبيل/ حضن الأم بوصفها حاملاً للقيم الجمالية التي تقوّض قبح الحياة، فتكون صورتها تجميلاً وتنقيحاً لكل ما يعتريها: تنسابُ إليكِ طيورُ الصبحِ .. تحطُّ الشمسُ على كتفيكِ فتكون الأم الملجأ، وتكون فردوس الأمان المفقود في الحياة: يا أنشودةَ هذَا العالمِ حينَ تضيقُ منافذُ صدري : ويكونُ الأفقُ رُكامَ دخانْ قُبُلاتُكِ تغسلُني مطراً أبيضَ يهطلُ بالسعدِ على جدبِ حياتي ويسيلُ أمانْ تتعدد مصادر الحزن ومُشكّلاته الدلالية عند الشاعر، لكنها جميعاً تتوحد في ينبوع واحد تصدر عنه، هو ينبوع الذات التي أرّقتها غربتها واغترابها، فنراه يخاطب ذاته في نجوى داخلية طافحة بالبوح والندب، فيقول: جَرَّبتُ أدخلُني لأقتلَ حيرتي فوجدتُني بَشَراً كثيراً بعضهُ ينعى - على بابِ الدقائقِ- عُمْرَهُ الماضي.. وبعضٌ ساهرٌ في الحزنِ يكبرُ في غيابةِ جُبِّهِ يبكي الذينَ تصرَّموا من أهلهِ وصِحابِهِ.. والبعضُ ما زالتْ لديهِ وشائجٌ بالحُلْمِ والفَرَحِ اللَّذَيْنِ تَحَدَّيَا هذا الترابْ فتكون القصيدة حافزاً من حوافز المواجهة: تسوقُني ريحُ الكآبةِ للكتابةِ والمواجعُ تستلذّ بقهوةٍ من لبِّ روحيَ لا تملّ الارتشافْ فالكتابة هي تعويض وملجأ للذات الشاعرة، فالشعراء دوماً مُولعَون بخبزةِ الأحلامِ في طبقِ الكلامِ، ولعلنا نجد برهان ذلك في كثرة التراكيب الانزياحية المعبرة عن هذا الحزن كما نلحظ على سبيل المثال: (يصغي إلى وجع، مسافراً في هزيع اليأس، حقيبة الليل، حصاد الشوك أغنيتي، سياط الحزن، بئر اكتئابي، تنهشني المواجع، يأكل ضحكتي ألمي، ملل تناسل من ملل, يجفّ الورد، بيدر عمري، شهقة الأقراس، ..) وتتشظى دلالة الحزن على صفحات المجموعة فتظهر من خلال الخذلان وافتقاد الأمل: أنا ها أنا بكِ لم أزلْ أستأنفُ الرحلاتِ نحو فجائعي في العشقِ أُقلعُ من مطارِ كآبتي وحدي وأجتازُ المحيطَ العاطفيَّ مغادراً قلبي وأهبطُ من جديدٍ في مطارِ كآبتي الماضي العريقْ واليأس الذي يتمظهر في أعتى صوره في قوله: يا نشوةَ اللحنِ الشهيِّ على فمِ الأوقاتِ ماتتْ في دمي أنشودتي النشوى و شيّعَ عرسَهُ الينبوعُ والشوقُ الممّ وجُ في العواطفِ قد أريقْ فإراقة دم الأغاني، هي اغتيال للفرح، وتشييع عرس الينبوع والشوق، يعني ذهاب جمال الحياة، وهذا ما يؤكده صورة أخرى، هي صورة مصادرة ورود الحياة في قوله: ماذا سأصنعُ كلّما فاضتْ ينابيعُ العذابِ وصادرتْ من خافقي وردَ الحياةِ إلى الوحَلْ ؟ وثم يأتي افتقاد الابن الذي يُذلّ الروح، ويلقيها في لجة أحزانها التي لا تنقضي، فيكتمل مشهد الحزن الموجع: وقوّضَ نبعُ المُنى رحلَه صبيحةَ قالوا : ( محمّدُ ) ماتْ يعتمد الشاعر وسيلتين لمواجهة هذا الحزن الفياض، هما: البحث عن أمل قد يكون مفقوداً، والبحث عن مجاز يخفف من وطأة هذا الحزن، ويظهر في تشكيلات الصور الشعرية. نوافذ الأمل، نوافذ الحلم: على الرغم من أنّ الشاعر يُبقي نوافذه مغلقة على الفرح، فالفرح ليس مهنته- على حد تعبير محمد الماغوط- لكننا لا نعدم تسربه من شقوق ونوافذ الروح في صور لا تخلو من حزن شفيف، مغلف بأمل قارٍّ في أعماقه، وهو ما صرح به بقوله: وجيبيَ فارغٌ من كل شيءٍ غيرَ حلمٍ ناعمٍ، ويتجلّى هذا الحلم الناعم في البحث عن سكينة الروح، فتظهر في قوله: أُصلِّي ، لعلَّ النوافلَ تفتحُ باباً لقلبي فتغفُو حمائمُ حزني الوجيعِ .. ويزهرُ فوقَ رصيفِ فؤاديَ وردٌ معطّرْ كما تتجلّى في زراعة وردة الأمل التي تُمنح للآخرين: كبرتُ أزرعُ للإنسانِ سوسنةً منَ المحبّةِ في روحي تعطرُهُ وفي البحث عن البهجة في صورة حلم: حُلْمي عصاً سحريَّةٌ أُلقي بها فتجيءُ بالفَرَحِ المُغَيَّبِ أو في تصويره لأمل مُشتهى يجد فيه المحرومون ما يبهجهم ويُزيل آلامهم، أمل يخاطبه الشاعر في أبهى صوره الإنسانية النبيلة: و يستفيقُ علَى أنغامهِ سَهَراً كلُّ الذينَ على الآلامِ قد رقدُوا نوافذ المجاز: لعل مكمن براعة الشاعر جاسم عساكر وتمكنه من أدواته الشعرية يظهر في قدرته على تحويل أحزانه ومقولاته الفنية إلى صياغات شعرية فذة، كما في تصويره آلام غزة بقوله: وقفتْ على البارودِ تجمعُ كحلها ومنَ الرمادِ تخضّبتْ حِنّاءها فالصورة تجمع بين المدينة الأنثى، وما تقتضيه الأنوثة من زينة (كحل وحناء) وبين الحرب بكل ما تحمله أدواتها (البارود) من موت وتحطيم للجمال، فيتحول البياض إلى سواد مدمر يمسي فيه (البارود) بسواده، كحلاً، والرماد حناء، إنّها براعة الشاعر في الاحتفاء بفعل المقاومة تتحول فيها همجية العدو إلى جمال معنوي مؤداه يكمن في مواجهة الغاصب والصمود أمام جبروته. كذلك يحضر التضاد في تشكيل الصورة للتعبير عن ذات مضطربة متألّمة، كما نرى في تساؤل الشاعر: ماذا سأصنعُ كلّما شكَّتْ سهامُ البؤسِ أجنحةَ الهناءِ بداخلي حيثُ الصباحُ قد استحالَ مغارةً ظلماءَ يقطنُها الغرابُ فلا غناءَ ولاَ زَجَلْ ؟ فالبؤس بات سهاماً قاتلة، تفترس طائر الهناء عبر صورة استعارية حسية لا تخلو من طرافة، تعززها الثنائية الضدية (الصباح/ ظلماء) وطرافة الصورة هنا تتضح من خلال تصوير الشيء بنقيضه، فالصباح في العرف اللغوي دال على انكشاف وإزالة لظلام الليل، لكن الشاعر يزجّه في مغارة مظلمة ليسبغ عليه ظلاماً معنوياً وروحياً لا تدركه إلا النفوس الغائرة في الحزن. ولا نعدم في تشكيلات صور الحزن من سخرية لاذعة أو كوميديا سوداء، لعل أطرفها يبرز في قوله: أُلَمّعُ كالبروقِ حذاءَ حُلْمي ليزهرَ ماشياً في كلِّ دُجْنِ أقولُ لعابرِ سككَ المآسي أنَا شَجَرُ السعادةِ فاحتطبْني والسخرية هي موقف من الحياة، ومواجهة جمالية مع كل ما يزيد قبحها، فنرى الحلم هنا قد استحال إلى حذاء، يزهر بفعل المشي، يخفف من وطأة هذه الصورة ويضفي عليها جمالية أنيقة مزجها بنفحة إنسانية في البيت التالي عندما يجعل الشاعر من ذاته شجرة للسعادة يقدمها للناس، إننا أمام رغبة عارمة في البحث عن حلم السعادة، ولو مجازاً، كي نُسعِدَ به من حولنا، أملاً في حياة أرق وأجمل. أخيراً: لاشك إننا أمام شاعر يمتلك شعوراً مرهفاً وحساسية عالية يؤرقها القبح، فتبحث عن الجمال، يؤلمها الواقع فتختلس الأمل من نوافذ الحزن؛ فالشاعر لا يملك من أمره ومن أحلامه ومن مواجهاته مع أوجاع الحياة، سوى أن يلقي وشاح الدفء على عنق القصيدة. ** **