(1) يقدّم «جاسم عساكر» نصه الشعري -في طبعته الأولى 2014م عن النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية- من خلال مدخل خارجي هو (أطواق الشوك)؛ هذا المدخل يتكوّن من دالين حاضرين ودال غائب؛ حيث إن اكتماله يكون: (هذه، أو تلك أطواق الشوك) في دعوة صريحة للتدخّل الصياغي. الدال (أطواق) مفرده «طوق»: وهو كل شيء استدار من الحُليّ أو الورود أو غيرهما؛ كي يُوضع حول العنق تعبيرا عن الفوز أو المكافأة أو الفرح. وتحمل الدلالة النسقية معنى العقاب؛ كما ورد في قول الله تعالى: (سيُطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة) «آل عمران180». بينما دال (الشوك) مفرده «شوكة»: وهو كل ما يخرج من الشجر أو النبات دقيقًا صلبًا كالإبر. بينما تحمل الدلالة النسقية معاني المعاناة والإيذاء والمتاعب. واجتماع الدالين معًا عن طريق التركيب الإضافي، يُفضي إلى ازدواج الدلالة؛ فإذا كانت المعجمية تشير إلى أن أطواق الفوز أوالمكافأة صارت تؤلم لأنها من الشوك، فإن النسقية تشير إلى أن الحصول على الجمال أو الوصول للقمة لا يخلو من عناء وألم. واللافت، أن النصية حرصت على إحداث نوع من التوازن عند استحضار الدالين؛ ففي الوقت الذي لم ترد فيه كلمة (أطواق) ولا مرة، فقد ورد الفعل الماضي «طوّق» مرة واحدة، ومفردتا «تاج، إكليل» ثلاث مرات باعتبارهما شكلين آخرين للأطواق. وتوازنًا مع هذه الاستدعاءات، وردت كلمة (الشوك) أربع مرات أيضا؛ مرتان بصيغة الجمع «الشوك، الأشواك»، ومرة واحدة بصيغة المفرد «شوكة»، وأخيرة بصيغة الفعل الماضي «شكّت». وإذا كان دال (أطواق) قد ارتبط بالذات الشاعرة المهمومة المعذّبة مرة، وبالعذابات الملازمة لميلاد القصيدة مرات. فإن دال (الشوك) حصر تردّده المتنوّع في إبراز المعاناة؛ نفسية كانت أو جسدية، وكأنّ الألم صار خيارا مفضّلا مع ميلاد القصيدة المتعثّر، ورثاء الأحبّة الراحلين، وأزمات الوطن المدبّرة، وغَبن اللغة القومية المزمن، ومخاوف الوحدة المقيتة. (2) وإذا كان العنوان قد أحالنا إلى ثنائية الذات والألم، فقد عزف الرقم (ثلاثون) على نفس الوتر، حين تم استدعاؤه في ضفيرة بديعة للذات والأم والقصيدة والحياة، وقد بلغت الاستدعاءات خمس مرات؛ مرتان للذات ومرة للقصيدة باعتبارهما مرفودين، ومرة للأم وأخرى للحياة باعتبارهما رافدين. مع الذات؛ يقرّ الشاعرُ بغربته الشديدة أمام نفسه، وفشله المتكرر بعد كل ملاحقة لها، فيصرح بأنّه ما زال يمشي باحثا عن ذاته ولم يصل بعد. ورغم اعترافه بأن الثلاثين قد صهرته تجاربها، إلا أنها أصابته بالحيرة والشتات، بعدما أنضجت رُجلا آخر لا يقين معه، ولا يزال يفتش عن آلية للتلاحم به. لذا فإنه يتهم (الثلاثين) بأنها: تلك التي وزّعتني على كل دربٍ شظايا؟! «ص80» ولا يفوته الاعتراف بفضل أمه ودفء حضنها وصلواتها، فطيلة ثلاثين عاما ينهل أريجًا من نبعها، ما أثرى شاعريته ففجّرها، وهدهد حسّه فأرهفه. ثم يربط فاعلية أريجه بالقصيدة؛ التي لا يقتنصها سوى بعد لأي شديد، فيفوح -رغم ألمه وعذابه- مسكًا وعنبرا. وأمام طبيعة الحياة التي تحمل بين أكنافها الموت والمرض واليأس، وتنعجن بالمتناقضات؛ ترسو أوجاعه وهواجسه في مرفئه الأثير؛ القرآن الكريم: أقوى على المشي وحدي وأقوى بأنْ أطهو البنّ وحدي فهل كان إثميَ أنّي: ختمتُ ثلاثين جزءًا من الذكْر؟! «ص137» ولا تتوقف مراوغات الرقم (ثلاثين) عند مسألة الاستدعاءات، بل تمتد لمسائل أخرى؛ منها عدد قصائد الديوان التي تحمل نفس الرقم، ربما احتفاء من الشاعر بسنوات عمره «الثلاثين»، ليس هذا فقط، بل إن «ثلث» هذه القصائد عموديّ، في إشارة واضحة منه إلى امتلاكه لأدوات الشعر من منابعها، والغريب أن هذا «الثلث» انحصرت خطوطه الدلالية في «ثلاثة» أعمدة توزّعت بين الذاتي والقومي والإنساني. جديرُ بالذكر، أن مغامرة العدد «ثلاثة» ومشتقاته، بدأت من الغلاف الخارجي للديوان، حيث تعمّد الشاعر أن يكتب اسمه «ثلاثيا» وباللغتين العربية والإنجليزية بأعلى الصفحة على خلفية من الأغصان الشائكة، ملمّحًا بتعدّد ثقافته التي اقتصرت على الثقافتين العربية والإسلامية، ومعرّضا بغنائية النصية التي جعلته محورها في خطوطها الدلالية. واللافت أن هذه الخطوط غارقة في تيمة أثيرة هي الألم الغامر، تعبيرا عن خصوصية «عساكر» لغويا وفنيا وثقافيا. (3) من الواضح أن ديوان (أطواق الشوك) يحمل بُعدا ثقافيا، مردّه المفارقة التي أطلّت برأسها من العنوان؛ الذي جمع بين متناقضين: «الطوق والشوك، الفرح والألم». وسرعان ما مدّ التناقض أذرعه بين حنايا القصائد، وتابع تردّده بين أنفاس الدفقات الشعرية، متلوّنا بين المفارقات الصياغية والمكانية والموقفية والثقافية. ولا غرابة أن تبدأ المفارقة من إهداء الشاعر لأمّه حيث «الليل والضوء، الدمعة والبهجة»، ولا غرابة أيضًا أن يتكثّف حضورها في القصائد العمودية للرثاء، والفخر المشوب بالأسى مع الوطن واللغة العربية وقطاع غزة. وعندما استهلّ الديوان عنوانه بمفارقة صياغية تتبنّى الثنائية، كان هذا مؤشّرا على انتشار هذه النوعية. ففي قصيدة (الهوية والمنفى) «ص103»، التي يدافع فيها الشاعر عن اللغة العربية، استحضر (حصون) اللغة التي تتهاوى كالقش، والرياح التي تسخر من هُزالها، ودعا إلى (تحرير) البلاغة من أغلالها، وجمع بين (الجدائل والصَّلع) على سبيل التهكم السافر مما آلت إليه حال اللغة العربية بين أهلها: قصّتْ جدائلها الطوال فما وعَتْ إلا على صلعٍ بها (يتشعّرُ) وتَتتابع أبنية المفارقة، في قصيدة (غزة) «ص38»، للفخر بالصمود أمام الحصار والقصف، واستمرار مواكب الشهداء، والحياة التي تنبتُ في أضلع الموت. استحضر الشاعر (الأم) التي تزفّ أبناءها للرّدى، و(الجرح) الذي أضاء الظلام، و(المخنوق) الذي تُسعفه أنفاسُ الشهداء. ثم تأتي المفارقة الثقافية في إنطاق الأصم: صلّى دمٌ في أرضها فاعشوشبتْ بين الصخور وأنطقتْ صمّاءها على اعتبار أن العاهتين (الصمم والبكم) مرتبطتان بعصب واحد، لذا فإن الدماء الزكية سوف تعيد الحياة لأرض غزة، الأمر الذي سوف ينطق الأبكم من فرط الإعجاز. وكما دخلت المفارقة أنساق الثقافة، فقد دخلت النسق المكاني. ففي مرثيته للعلامة عبدالهادي الفضلي، (منحلة العلوم) «ص59»، وصلت المفارقة إلى فداحتها حين جمع الشاعر بين (المجرّة والتراب)؛ للمباهاة بالفقيد، وإظهار قيمته العلمية والأدبية والإنسانية: حتى عجبتُ لألف ألف مشيّعٍ دفنوا المجرّة في ثرى (سيهاتِ) أمّا عن المفارقة الموقفية، فقد وقعت، في قصيدة (خذني على لحن السلام) «ص129»، للمقارنة بين موقفين والتنديد بأصحاب الفكر الأسود: أهديتهم زهر الحياة فأبدلوا زهر الحياة مآتما وحدادا دعهم، فقد جاءتْكَ أغنيةُ الهوى: نمْ مطمئنا فالجميلُ يُعادى حيث قابلوا البذل بالجحود، والجمال بالقبح، والورود وأغصان الزيتون بالرصاص. (4) لم تتوسّل النصية بدرامية المفارقة فقط، بل انفتحت على الأنساق العربية سواء كانت دينية أو أدبية؛ عندما استعانت بظاهرة تداخل النصوص؛ أو ما يُعرف بمصطلح (التناص). هذه الظاهرة ربطت فاعليتها بتضفير النص الحاضر بالنصوص الغائبة، وتحويل الدفقة الشعرية إلى حادثة ثقافية بامتياز، حين رفدتها ثقافيا في عملية تحتاج إلى وعي ثقافي وذاكرة نشطة مفتوحة على الموروث الثقافي. ومن الصعوبة بمكان، تتبّع كل تناصّ على حده بغرض تأويله، وفي هذا، ينوب الجزء عن الكل. فقد تمثّل الخطاب الأدبي في قصيدة (خذلان البريق)، بعدما أقلع الشاعر وحيدا من مطار كآبته، وغادر قلبه مجتازا المحيط العاطفي، ثم: (ولقد ذكرتك) تلبسين حديقة من سوسن يطفو ويغرق في الرحيق «ص46» وهذا يستدعي قول الشاعر «عنترة بن شداد» في حبيبته «عبلة»: ولقد ذكرتك، والرماح نواهلٌ منّي وبِيضُ الهند تقطرُ من دمي لقد فتح «عنترة» ذاكرته نحو الحبيبة في اللحظة التي أقبل نحوه الموت في ميدان المعركة والرماح تنهال عليه، بينما يفتح «عساكر» ذاكرته نحو الحبيبة عندما هاجمته جيوش التعاسة والوحدة. ومثلما كانت الحبيبة محفّزا وداعما قويا لعنترة نحو الجلَد والإقدام والانتصار، فإن «عساكر» يحاول استدعاء نفس الروح المناضلة للتجلّد أمام وحدته، والإفلات من سطوة تعاسته. أمّا الخطاب القرآني، فقد استدعته النصية في قصيدة (أشعلتُ فانوس القصيدة)؛ حيث اعترف أنه جرّب الغوص داخل الذات لإنهاء مسألة الحيرة، فاكتشف الفاجعة: فوجدتُني بشرًا كثيرًا بعضُه ينعى -على باب الدقائق- عمرَه الماضي وبعضٌ ساهرٌ في الحزن يكبرُ في (غيابة جُبّه) «ص13» فالشاعر يتلمّس معجزة تعيد إليه سكينته؛ لذلك استدعى هذا الخطاب للاستئناس به، خاصة قوله تعالى: (وأوحينا إليه لتنبّئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون)»يوسف15». متمنيا تكراره معه للفكاك من حزنه وحيرته ويأسه. وفي قصيدته (مرثية عام) التي يرصد فيها بعضا من أيام طفولته؛ في غرفة الدرس ومع الأقران؛ ينفي عن نفسه الصفاء، بعدما دهمته الضغائن تجاه بعض المواقف والأشخاص، ويقرر أنه صادَقَ الطيور والأفاعي، وكما امتلأ بسلال الورود فقد: -ولستُ أُبرّئ نفسي- امتلأتُ ببعض الضغائن «ص139» لذا، فهو يستدعي حادثة «المراودة» الشهيرة التي وقعت بين سيدنا يوسف عليه السلام ونسوة فرعون مصر اللاتي شهدن بعفته، وذلك في قوله تعالى: (وما أُبرّئُ نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي) «يوسف53». والاستدعاء يحمل معنى البراءة؛ سواء براءة سيدنا يوسف عليه السلام من تهمة النساء له، أو براءة شاعرنا أيام طفولته رغم ممارساته المرفوضة. (5) إن خصوصية «جاسم عساكر» الشعرية تمثّلت في قدرته على ملاحقة تحوّلات نسق الألم لتقديم رؤية مخصوصة لعالم مخصوص. أدبيًا؛ وفي موازاة طريفة بين القصيدة والحبيبة، يمزج الشاعر بينهما لاشتراكهما في ثنائية المطاردة والتأبّي، فبعدما يرتفع نبض القصيدة: حطّت على حُمر الشفاه رغائبي وغدتْ تناديني النوارسُ ملءَ زرقة مقلتيك «ص117» ولأن دورها جدّ مؤثّر في استواء الذات الشاعرة، صارت القصيدة دليلا على الوجود الشرعي للذات في الحياة، وعليه فإن عمليات الحفر والملاحقة لا تهدأ. ونظرًا، لتكرار الولادة المتعثّرة مع كل قصيدة، ومخافة أن تخرج مبتسرة، يطارد الذات الإحساسُ بالوحدة والتشّظي والحزن المقيم: أشعلتُ فانوس القصيدة وانتظرتُ فلم يزُرني الحلمُ مشتاقا ولا صحَت النوافذُ هل أنا في العمر مصطلحٌ لعلم الحزن منسيٌّ بقاموس الغياب؟! «ص15» اجتماعيًا؛ وفي مقاربة لافتة، طرح الشاعر رؤيته للحب، من خلال تعريفات متعددة، حيث ربط بين الحب والتديّن، ودعا لإقامته ونشره. ثم نفى عن محرابه القتلة حتى ولو تدثّروا بمسوح التديّن، وضمّ إليه المؤمنين حقًا: الحب أيا وطني: لغةٌ لا يفهمها إلا القلبُ الساكنُ فيه اللهُ لا يفهمها القاتلُ حين يُعدّدُ باسم الدين جنائز قتلاه «ص58» هذه واحدة؛ والأخرى ربط فيها بين الحب والتضحية؛ حيث دأبت الذات على حراسة أعشاش العصافير من هجمات الأفاعي، وأطعمت البلابل قمحا وزعترا، وقدّمت الحب عصيرا للكائنات. هذا الإيثار والتسامي لم ينقذ الذات من إحساسها بالضياع؛ لأن الحب يحمل تناقضات لاذعة؛ حين يجئ مصادفة، ويخفي حقيقته، ويهدهدُك بين كفيه، ثم يجعلك أول ضحاياه. وهنا لا تملك الذات سوى أن تستعذب الشعور بألم الحب حتى تجعل له قيمة. ذاتيًا؛ كان استجلاء الذات وملاحقتها أقسى التجارب؛ لأنها تكررت دون جدوى، بعدما انتكست الأحلام، وانطفأت أقمار الفرح، وتأبّط التشاؤم كل بادرةٍ للأمل، وأطلّت التعاسة برأسها الرجيم، وصادر العذابُ ينابيع الحياة، وأطبقت الهموم. في هذه اللحظة الفارقة تستنجدُ الذات بربها، بحثا عن اليقين: يا ربُّ.. ماذا سوف أصنعُ كلّما ضاقت مساحاتُ الأمل؟! «ص49» وعندما سقطت الذات في متاهتها، وانتحرت الشمس، ونعق الغراب على رأس كل صباح، وأصبحت الرؤية ضبابية والطريق طويلا، وصار الحزن مقيمًا لا فكاك منه، لم تنسحب الذاتُ داخليًا، بل أصرّت على ممارسة دورها الإيجابي في المجتمع: قلبي مدينةُ مَن تاهتْ مسالكُهم ومَن هم بسياط الحزن قد جُلدوا إنسانيًا؛ كان الرثاء أصدق ما أنتجته الشعرية قديمها وحديثها، تحقيقًا لمروية الجاحظ -في البيان والتبيين- عندما سُئل أعرابيٌّ: ما بالُ المراثي أجود أشعاركم؟ فقال: لأننا نقول وأكبادنا تحترق. لذا فإن نسق الألم في هذا الديوان ارتفع متمثّلا في؛ الذات الشاعرة التي لا تبدع إلا إذا تعذّبت، والظروف المجتمعية بعدما تراجعت منظومة القيم، وتعرّض الوطن لضربات الإرهاب الأسود، ورحيل بعض الأحبّة. لقد مزج الشاعر في رثائه بين الإطار العام والبُعد الشخصي، وأعلى من القيم الثقافية والأدبية في مرثيته لمحمد الثبيتي، والقيم الثقافية في مرثيته لعبدالهادي الفضلي. ولعل هذا الخط هو امتداد لما بدأه الشاعر من قبل، حين أصدر ديوان (الأشرعة) وألحق به مجموعة من قصائد المناسبات والمراثي. وقبلها أصدر له نادي الأحساء الأدبي ديوان (شرفة ورد) والذي رثى فيه ابنه الصغير «محمد» في قصيدة موجعة بعنوان «ربيع بلا ياسيمن» إثر تعرّضه لحادث دهس.