إنَّ أهم ما يميزُ التجاربَ الشعرية الجديدة في المملكة العربية السعودية، انحيازها إلى المتخيل الذي يأخذ من الطبقات الطرية للروح، إنَّها شعريةٌ تنحاز إلى البهجة بلغةِ الطفولة التي تؤرقُ الذاكرة، فيغويها الحنين؛ لتسافرَ إلى أقاصيها البعيدة والعميقة، شعريةٌ تواجه شراسةَ الحياة وكوابيسها، بلغةٍ تُحاولُ أنْ تَحْفرَ في متون اللغة لتنجز لغتها الخاصة، فاستحقت أن تنتمي إلى الحداثة والتجديد بأثوابها القشيبة الرافلة بالمجاز والجمال، ولا تخرج تجربة الشاعر شتيوي الغيثي عن هذا الإطار، فلغته تستعد بدءاً من العنوان لتصبح مصيدة للقارئ، تغويه في السفر في أرخبيلات المعنى وتجلياتها المختلفة، التي لا تُسْلِمُ قيادَها إلى المتلقي إلا بعد سفر، وخبرة جمالية، فالمعنى هنا ليس مَسكناً للإقامة، بمقدار ما هو قلقٌ وارتجاجٌ لمكونات الدلالةِ الكلاسيكيةِ لنسج الكلام، إنه تدميرٌ للقارّ والمُسْتَكِن، وإقلاقٌ لراحة المتلقي الذي ينتظر من القصيدة أن تُقدّم له كلَّ جمالها على طبقٍ تقليدي، لا يُخاتلُ ولا يقضُّ سكينةَ ذائقته الجمالية، وبذلك تصبح القصيدة مكيدةً لمتلقيها، تحاولُ الهرب من المعنى الواحد، لتضخ معاني لا تنتهي، وتتعددُ بتعددِ القُرَّاء، فالشاعر يزجُّ بكلِّ ما يحملُه القلبُ من حنينٍ لتشكيل نصِّه الباحث عن المختلف، وينجح كثيراً ويفوته ذلك في أحايين قليلة ونادرة، ويمكنُ رصد ملامح مكائد القصيدة من خلال المحاور الآتية: شعرية الاقتناص في العتبات: لعلَّ الملمحَ الأول الذي حاول فيه الشاعر اقتناص سكينة التلقي بدمٍ باردٍ وحسّاسٍ هو عنوان المجموعة مع إهدائها، ففي العنوان انزياحٌ دلالي فذٌّ عن النسق التراثي المألوف، ففيه إعادة تشكيلٍ لمُفردةٍ ينضح من بين أحرفها رنينُ التراث، وهي لفظة (يُزمّله)، التي تُعيد إلى ذهن المتلقي التناص مع قوله تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ/ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل:1-2]، فالنسق الثقافي لهذه المفردة مُقتَنَصٌ من الحقل الديني، ويستثمر الشاعر طاقات اللفظة الدلالية، بأخذ مفردةٍ من مخزونها المشترك مع القارئ؛ ليعيد تشكيلها، فنقل الدلالة من محور الغطاء والستر - وهي صورة مادية محسوسة - إلى المحور الشعري، ليُسند الفعل إلى غير فاعله (عُمْر)، وبذلك يدخل الشاعر قارئه في متاهات المعنى في مكيدة إعادة التشكيل، فتصبح الاستعارة عنصراً حيوياً في تجلية الدلالة الجديدة، فالعمر كلّه صار جسداً لغطاء من نوع خاص هو القصيدة. ثم تحضر عتبة (الإهداء) التي تتلاعب بالصيغة اللغوية بطريقة طريفة، يقول فيه: «إلى جدٍّ حملتُ اسمه.. ولم أره.. إليه وهو يتجذر في شين طيني»، ففي استخدام الجزئي/الحرف (شين) كجزء من اسم الشاعر لعبة فنية، تشير إلى الجذر/الجد، الرافل في الحضور في مخيلة الشاعر، ما يجعل الخطاب الموجه إليه في الإهداء مسوّغاً فنياً، مع الإشارة إلى أن الجذور حاضرةً فِيْنَا تسير مع الدم في الشرايين شئنا ذلك أم أبينا، إنه الحضور القدري الذي لا سبيل إلى التخلص منه، سواءٌ أكانت هذه الجذور أناساً يسكنون في دواخلنا - رغم افتقادنا لهم - أم كانت لغة تخرج من مسامات الجلد لتختلط بجسد القصيدة. رنين التراث وانكسارات الذات: إذا كانت لغة الشاعر متأثرة بالواقع المُتردّي الذي يقهر الإنسان، ويحطم أحلامه، ويعزز من انكسارات الذات وتشظياتها، فإنَّها لم تتخلَّ عن إستراتيجياتٍ أساسية في بناء النص وتشكيل الدلالة، تتمثلُ بثقافة الهضم التراثي، تلك الثقافةُ التي تستثمر أشطراً شعرية وتراكيب ذات وقع؛ لإعادة توظيفها في التشكيل الجمالي، وتتناغم مع مقولات أساسية، حفلت بها تجربة الشاعر، فإذا كان الشاعر التراثي عبَّرَ عن احتجاجه، بما عُرف بمفهوم الصعلكة القائم على التشرد في الأرض الواسعة، ليُعبّر عن حالة احتجاجية تأنفُ الظلم، وتصرخ في وجهه، آملةً استبداله بواقع آخر، فإن الشاعر شتيوي لم يتخلَّ عن هذا الجذر الاحتجاجي الصارخ في أوديةٍ صماء، وهو ما ظهر في قصائد عدة، منها: قصيدة (الطائي)، وقصيدة (موالٌ جاهلي)، ففي الأولى يتداخل الصوت التراثي بالصوت المعاصر من حيث الشكل الفني الحديث، المتمثل ببداية النص على طريقة شعر التفعيلة، الذي سيتداخل في نهاية النص مع قصيدة العمود (الشطرين)، التي تمثل الصوت التراثي، ومع أن القول الشعري صادر عن الشاعر ذاته، إلا أننا أمام تقنية تتعدد فيها الأصوات، فتتداخل الأشكال، فيحضر الحوار الفعّال بين عبارات التراث، والدلالة المعاصرة، فاستعادة الشاعر الكلامَ التراثي يتناغم مع الدلالة التي يريدها، وهذا ما يظهر في قوله: ويسكنُ في صمتي ضجيجٌ يَلُفُّنِي وفوقي أسفارٌ من الأمسِ تعتلي يثورُ دمي نزفاً قديماً، وفي فمي حجارةُ آبائي، ورفضي معولي (ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعه) فيوسعني جمراً ويرضى بمقتلي (وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى) إذا ضاقَ عن رحبِ الفضاءاتِ منزلي فإذا كانت اللغة مسكن الإنسان، على حدّ تعبير هايدغر، فإن ذلك قد تحقّق عند الشاعر، فالوطن المشتهى هو مكانٌ حلميٌّ تحمله اللغة على أكتافها دون كلل أو ملل، وهذا ما قصده الشاعر بثنائية ضدية تسكن الروح (الصمت/ ضجيج) دالَّةً على غربة الذات الشاعرة وواقع أليم تتشظى فيه الذات، فلا تجد العزاء إلا بحالات متماثلة خضعت للتجربة ذاتها، تتمثلُ باستعادة صوت ابن الرومي الصارخ (ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعه)، وفي صوت الشنفرى مُحتجّاً على قومه (وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى)، فتتماهى الأصوات، لتصبح القصيدة تعبيراً جميلاً عن تصدعات الذات، وانتصاراً مجازياً على خرائب العالم، يتحوّل فيه وداع المكان إلى وداع للذات نفسها، كما نرى في قوله في قصيدة أخرى (موال جاهلي): قفا ودّعا قلبي، فما عاد لي قلبي ولا عادَ في دربِ المحبين من دربِ فيحيلنا إلى عاشقٍ آخر من عُشِّاق التراث للمكان، وهو الصمة القشيري في قوله: قِفا وَدِّعا نَجداً وَمَن حَلَّ بِالحِمى وَقَلّ لِنَجدِ عِندَنا أَن يُوَدَّعا إنها انكسارات الذات ومواجدها في ملاحقة الجمالي والمشتهى، والناصع في الحياة في أبهى صوره وحُلَلِه، وهيهات أن يُوجد بهذه المثالية خارج القصيدة، فتجد القصيدة نفسها غريبةً، وحيدةً، مُنْشِدةً: (طوبى للغرباء). ويحضر التراث الشعري من خلال تقمص الشاعر لشخصيته التراثية المعارضة، كما في قصيدة (نستغفر الحب)، التي يُعارض فيها إحدى قصائد ابن زيدون في ولَّادَة، فيُأدلجُ الشاعرُ نفسَه بطريقةٍ طريفةٍ معبراً عن الصوت الأخير الموجّه لولّادة، مفترضاً أنه الخطاب الذي لم يصل إليها، فيتولى الشاعر إيصاله، مستثمراً البنية الإيقاعية لقصيدة ابن زيدون، فيقول الشاعر شتيوي: سُهدُ القصيد وأشجان المُغنينا ماذا تبقى لحاديكم وحادينا؟ إنَّا وقفنا على أبواب لوعتنا نتلو من الدمع غفران المحبينا فالشاعر يتخذ من ابن زيدون قناعاً لإنشاء خطابه في الحب، أو لإعادة قراءة ذاك الخطاب السابق بلغة انزياحية رافلة بالصور، وبرؤيةٍ شعريةٍ جديدة. الأنثى المنذورة للجمال: ربما تشكّل الأنوثة - كمقولة جمالية - إحدى السمات الجمالية التي تجعل من قصيدة الشاعر منتمية إلى الحداثة من أوسع أبوابها، إنها الأنثى المتخلصة من فعل الزمن، الأنثى التي لا تشيخ، وتمنح القصيدة شبابها المتجدد كطائر الفينيق، إنها أنثى المجاز، وتبرز ملامحه في قصيدة (ذاكرة تكنس الرمل)، الموجهة إلى أنثى تكنس الرمل عن ذاكرتها، وتبعث المطر والغيث على جسد القصيدة، وهنا تغيب الأنوثة بمعناها التراثي (العيون التي تقتل، والغياب الذي يجرح الفؤاد)، فلا تتداخل مع ليلى، ولا دعد، ولا لبنى، ولا عزة الحبيبات المشهورات في تراثنا، إنها صوت جديد، فيقول: للرمل ذاكرة/ تُكنّسُها احتمالات اليقين/ ولا يقين يكتب المعنى/ لمعنىً تركضين وراءه/ هل في أخضراركِ غير ساقيتين/ من حرفين/ نونُك/ وارتحال الشين في طيني/ نُعيدُ طفولة الأشياءِ/ نكتبها/ نُسمّيها/ نرتّبها/ ونقبضُ وقتنا المحكيّ/ في لغة السفر. إنَّ الأنثى التي يستحضرها الشاعر، هي الأنثى التي يلاحقها المعنى لاهثاً ولا يجدها، المرأة التي يكتفي الشاعر بجزء من اسمها (حرف النون) لتبعث الخضرة والجمال في قلب حبيبها، الأنثى التي تحضُرُ من ذاكرة الطفولة البعيدة؛ لتتشارك معه في إعادة صياغة الكون، الأنثى المسافرة الغائبة التي تترك آثارها واضحةً على جغرافيا القصيدة، فتمنحها أَلَقاً، وجمالاً، وحضوراً بهيّاً. عباءة المعنى: لا يستكين الشاعر شتيوي في معجمه الشعري إلى المفردات بدلالتها المرجعية والمعجمية، بل يحاول إعادة تشكيل المعنى، وإلباسه عباءات بلاغية مطرزة بالحنين والشوق، فيسكبُ عليها من روحه، فتخرجُ علينا بتشكيلات جمالية تستثير المتلقي وتحرضه على اكتشاف جمالياتها، وهذا ما نجده في القصائد ذات الطابع الوجداني كما في قصيدة (بدوي يبحث عن شمسه)، التي تُخلصُ للبداوة بمعناها النقي، فتسترفد من معجمها ألفاظاً دالة على ذلك، فيقول: أيها البدوي الذي راح/ يبحث عن شمسه في المغيب/ أيها الكان مثل النهار مضيئاً/ يُسّرحُ أغنام أفكاره في ربيع العقول/ ويكسرُ أوقاته بالحُداء الرطيب/ يا الذي كان لصاً صغيراً/ يحاول أن يسرقَ العمرَ/ كيما يحقق في عمره المستحيلَ/ ويسرقَ كُحلَ العذارى/ ليرسمَ أحلامهنّ على ردهات القلوب. إننا أمام لغة لا تحفل بالاستعارة لتكون تشكيلاً جمالياً جزئياً في الصورة الشعرية، على عادة المدرسة التقليدية، بل أمام جملة صور تتضافر جميعها في تشكيل الصورة/اللوحة، ممَّا يُضفي على الصورة انتشاراً عنقودياً، تتماسك أجزاؤه جميعاً لتقدّم الدلالة، فالبدوي الذي يستهدفه الشاعر بخطابه، هو بدوي من نوع خاص ومتفرّد، وعندها لا يكون استحضار المفردات من حقل البداوة استحضاراً تصويرياً تسجيلياً، بل استحضاراً تعزيزاً للقيمة، وحرفاً للمعنى عن مساراته وانساقه، فالبدوي هنا لا يبحث عن الغروب كي يؤوب إلى المنازل، بل هو الذي يبحث عن الشمس في المغيب، في انحياز للبحث عن الجمال، والبدوي هنا يسّرح أغنامه، ولكنها ليست الأغنام المألوفة، إنَّها (أغنام المعنى)، في إشارة إلى فيض الأفكار وتناثرها في رأسه، من هنا كان منطقياً أن يكون المرعى الذي تسرح فيه الأفكار هو (مرعى العقول)، في تحويلِ اسم المكان من دلالته الحسية إلى دلالة مجازية، تمنحُ ذاك البدوي سمة نقاء الأفكار، وسمة امتلاك الثقافة العالية التي تميزه، وبالتالي يكون جديراً بكل هذه المجازات التي تلاحقه ولا تصل إليه، فهو يكسر وقته بالحداء الرطيب، وهو سارق من نمط آخر، إنه سارق الوقت/العمر، هارباً من الموت، فتحقيق الأحلام/الأفكار يحتاج إلى وقت أطول لا تجود به الحياة، وهو سارق للجمال/ كُحل العذارى لا لشيء، إلا ليعيد تشكيل الجمال الكامن فيه، فالسرقة للكُحل تعبيرٌ مجازيٌّ عن ذاتٍ ترفلُ في الجمال، وتُحسِنُ التقاطه لتُعيدَ تشكيله. ** **