«كل شيء مباح في الحب والكفاح» ...، مثل لا يحضرني اسم قائله، غير أنه يكفي هنا «حضور» مضامينه الغربية واضحة المعالم. فجزء من هذا المثل يؤكد حيوانية وبوهيمية الواقع الذي تم اشتقاقه من واقعه. هذا فيما يتعلق بالحب، أما ناحية إباحة كل شيء في الحرب، فهي عقيدة عسكرية لم يجدها تاريخيا سوى الحضارة الغربية، المتوحشة، المؤمنة بأن «البقاء للأقوى» لا للأحسن، أو الأكثر أخلاقا أو الأغزر أدبا. فالحياة في نظرهم غابة أخلاقها وأدبها «القوة» غير الأخلاقية. ولكن هيهات دعوني أخاطب قلمي بالقول على رسلك، أوليس في تاريخنا العربي ما هو قريب الشبه من ذلك ..؟ تمعنوا في مضامين قول أحد الأوائل لتروا كم هو قريب من المثل المذكور، حيث يقول: أطيب الطيبات قتْل الأعادي واختيالي على متون الجياد ورسول يأتي بوعد حبيب وحبيب يأتي بلا ميعاد ... إنه إذن الإنسان جامع النقيضين: الحب القاتل وحب القتل..! *** قال أحد دهاقنة الاستعمار المنقرضين لعنة اللّه عليه ما نصه: «إن رفّاً واحدا من مكتبة أوروبية جيدة يعادل كل التراث الوطني للهند والجزيرة العربية»...، وردا على قوله هذا أقول لقد أبان لنا من حيث لم يقصد وسيلة «مذبحه..!»، أعني أنه قد أفضى إلينا بالوصفة السحرية الكفيلة بهزيمتهم، وذلك حين أخبرنا عن أكثر الأسلحة فعالية على قطع وريده «الحضاري»، فالغلبة عليهم لن تتأتى إلا بأسلحة «المكتبات»، غير أن لدي هنا «شرط وحيد» مضمونه أن تكون رصاصات المكتبات عقول المستقرئين لا عواطف القارئين..! *** ** إن يكن «العقل السليم في الجسم السليم»، فالفكر السليم في التفكير السليم. عليه ليس هناك جوابا واحدا للسؤال الواحد، فالسؤال البدء، والجواب إلى ما لا نهاية، وعملية حصره «أحاديا» ليس إلا تبديدا لثروة الملكات الموجودات المطمورات. فقد يكون لقاعدة «لكل سؤال واحد جواب وحيد» مكانا مكينا في الثقافات الحديثة، حيث التقنين يحتمه انتفاء الموروث، أما في وضع ثقافة كالثقافة العربية في تسخير الماضي بكل انفتاح عقلاني على الحاضر رحلة مستقبلية خالية من وعثاء السفر عبر التاريخ المسافر بالإنسان إلى محطته الأخيرة. فالثقافة العربية ذات ارتداد فسيح إلى ماض عظيم، وذات امتداد مستقبلي عظيم هو الآخر أيضا، فيجب للظفر بالحسنيين عدم ترسيم ميادين السباق، أو تحديد نقطة الانطلاق، فكل ما يتطلبه الأمر هو أن يُطلق سراح ما يُراد له الإنطلاق ليخط ميادينه، ويجدد نقطة انطلاقه ..، حيث ميادينه كل آفاق الآفاق .. حيث ليس للآفاق حدود ليكون نقاط انطلاق ..! *** أحيانا يخطفني «التفكير!» فيرمي «بجثتي!» الفكرية خارج أسوار الواقع زمانا ومكانا، حيث هناك أركب متن الخيال، فأتخيل فيما لو خرج مجموعة من أعلامنا الأوائل من قبورهم: «ولتكن هذه المجموعة على سبيل المثال مؤلفة من السادة: الجاحظ، والراغب الأصبهاني، وأبو الفرج الأصفهاني، والصفدي، والشابشتي، والدينوري وأبو حيان التوحيدي» .. أقول أتخيل خروجهم، وسيرهم على غير هدى، وفي الأخير يصدف أن يدخلوا مكتبة ما، فيتناول كل مؤلف مؤلفا من مؤلفاته، ثم يشرع بقراءة أجزاء معينة منه بصوت جهوري لا أخاله إلا عذبا. هنا ماذا تتوقع أن يحدث؟ هل سوف يكون بمقدورهم في زمننا هذا قراءة كل شيء خطته يراعاتهم المبدعة؟! شخصيا لا أعتقد ذلك، ابتداءً بصاحب المكتبة الذي لن يتردد عن طردهم من المكتبة شر طردة، والسبب في ذلك جد بدهي، فبضيق الفكر تضيق آفاق التفكير، فتتقلص من ثم ميادين التعبير. فالثقافة العربية التي زودت هؤلاء المبدعين بمؤونة التحليق في فضاءات الفكر الإبداعي ومنادح الأفكار الإبداعية، لم تعد هي الثقافة العربية ليومنا هذا «نصف العربي» غير الأبي البتة، فلقد مات من الفكر ما مات، وتقلصت على أثر ذلك المساحات، ليحل في الأفكار الشتات، فتضحى الأقلام آفات والأوراق آهات .. بالمناسبة ماذا حل «بالشلة!» بعد طردهم من المكتبة؟ .. في الحقيقة على الرغم مما بذلته من جهد جهيد بهدف اقناعهم لقبول دعوتي لهم إلى نادي «المفطحات!» وذلك لغرض إطلاعهم على القدرات «الهضمية!» لعرب زماننا هذا، فقد رفضوا رفضا قاطعا، حيث أصروا بكل قناعة على العودة إلى قبورهم..