يميل البشر للقول بشقاء العاقل ويجدون في ذلك سلوى عن شقاواتهم، ومن ثم وصف غير الشقي بأنه جاهل، وهذا هو معنى بيت المتنبي المشهور، وعلامة قبوله الثقافي العام هو ترداده والتسليم بمعناه مما يعطي أفضلية طبقية للشقاء، وكأنه خاصية عليا بين عالم عاقل شقي وآخر تنقصه هذه الميزة ومن ثم هو جاهل ودليل جهله عدم شقائه . على أن شقاء العقل يأتي من غرور العقل وتصوره الكمال لنفسه ، وأي حالة نقص سينظر إليها على أنها من شقاء العقل الكامل وليست من عجزه ، ولكن لو أخذنا بحقيقة أن العقل ليس كاملا ، وأنه يحتاج إلى الوجدان والعاطفة في أمور كثر ومنها الإيمان والمحبة ، وهما معا ليستا حقا محتكرا للعقل والعقلانية ، ولو أصر العقل على الاستيلاء عليهما فلاشك أنه سيشقى؛ لأنه دخل في منطقة يحتاج فيها إلى معين يعينه ، وهنا تأتي نظرية روسو في قوله إن عقله يدله على فطرته ومن ثم يكتشف حقيقة الإيمان ، وقوله هذا يعني أن عقله إذا أدرك عجزه فإنه سيتحرر أولا من غروره وسيتحرر كذلك من سلطة المؤسسة على تفكيره، ومن ثم يعود إلى نقطة البداية الصافية التي لم يخالطها غرور العقل وتعصبه ولا تشدد المؤسسة الدينية واستعمارها لتفكيره ، وهنا يتحد عقله مع وجدانه ويصل إلى طمأنينته الخاصة . وتبعا لهذا سنتخلص ثقافيا من الطبقية الثقافية التي تنسب الطمأنينة للجهل ، والشقاء للمعرفة ، وكلما كابر العقل في إسكات الوجدان وكتمه فإنه سيشقى بكل تأكيد ، ولكن لو حررنا السجين فسيتحرر السجان كذلك ، بما أن السجان يظل أسيرا عند المسجون وإن ظن في نفسه الحرية ، والطمأنينة ليست أمرا يتنافى مع العقلنة ولكن بشرط أن يتآلف العقل مع الوجدان وتتحرر المعاني في توازن عادل بينهما .