جدلٌ جديد في الساحات الحوارية ووسائل التواصل في محافظة الرس لم يكن موجوداً قبل عِقد أو عِقدين من الزمن، لكنه أَحدَثَ حِراكاً حول تاريخ بناء (مرقب الشنانة)، وهذا المقال المختصر لا يسع لذكر كامل الروايات لكنه محاولة لإبراز أهمها وأرجحها، وقد ورد في كتاب (الرس وأدوار تاريخية في الوحدة) معظم الأقوال، كما ورد ذلك في معظم الكتب المعنية بالرس، وفي مجملها ترجيح لتاريخ البناء بأنه كان عام 1111ه، وفي هذا المقال تم الاكتفاء بما هو أقوى الروايات وأرجحها، وبما هو لدى كثيرٍ من المؤرخين روايةً أو ترجيحاً. ومرقب الشنانة أو كما يسميه البعض برج الشنانة، هو معلم من المعالم الأثرية المهمة في منطقة القصيمبالرس، حيث كان يستخدمه سكان الشنانة للمراقبة في أوقات غارات السلب والنهب الشائعة آنذاك بين بعض القبائل أو من يُسمَّون (الحنشل) من اللصوص، أو بين بعض البادية مع الحاضرة آنذاك، وهو كذلك للمراقبة العامة ومعرفة أهلة ومواقيت الأشهر، ومن المؤكد أن أهمية الاستخدام لهذا المرقب كانت أكثر زمن الحملات الأجنبية والحروب على نجد عموماً فيما بعد ذلك. والمرقب من معالم الشنانة الأثرية الباقية من تراثها العام حتى الآن، كما أنه شاهد على تاريخها القديم ومواجهاتها العسكرية المدوَّنة تاريخياً، ولهذا يفتخر أهالي الرس والشنانة خاصةً بهذا المرقب كثيراً، وكذلك عامة أهل القصيم، ولوجود هذا المرقب الذي ربما يفوق مرقب الرس بالبناء والارتفاع دلالات على أن بلدة الشنانة قديماً كانت بلدة عامرة بالسكان والمزارع تضم أسراً وعشائر كثيرة، وأسواقاً ومساجد ومزارع وبيوتاً متعددة واستهدافاً أكثر.. ولا توجد معلومات دقيقة عن ارتفاع هذا المرقب عند تأسيسه، لكن عوامل التعرية، وربما القصف الذي تعرض له أثناء بعض الحروب التاريخية التي شهدتها البلدة، فضلاً عن عبث الأيدي المعتدية عليه التي طمست بعض الملامح له. ويقول بعض أهالي الشنانة: إن عدد الأدوار الساقطة من أعلاه ربما ثلاثة أدوار أو أكثر أو أقل، ومن توصيفه أن المرقب مخروطي الشكل مستدير القاعدة، مبني من الطين القوي المخلوط بالتبن. وحسب اللوحة المنصوبة بجوار المرقب من قبل (وزارة المعارف وكالة الآثار والمتاحف بالرس سابقاً) فإن مواصافاته في حالته الراهنة يتكون من ثمانية أدوار بارتفاع 23.80 مترا (يعني حوالي ثمانية أدوار أو تسعة حسب المباني الحديثة)، وقطره من أسفل 7.52 متر، وقطره من أعلاه 1.50 متر، وسمك الجدار من أسفل 1.20متر، وسمكه من أعلى 40.00 سم (حسب معظم كتب الرس، واللوحة الرسمية). - تاريخ البناء ورد في تحديد تاريخ بناء هذا المرقب أنه كان عام 1111ه، والروايات الكثيرة عن هذا التاريخ تُرجِّح هذا بوضوح، بل تكررت في معظم المصادر التاريخية المعتبرة كترجيح، كما أنها هي الرواية الرسمية المدوَّنة لدى الجهات الحكومية، وهو التاريخ المسجَّل لدى وزارة المعارف المعنية بالآثار سابقاً مما يُعزِّز قوة وصحة هذه الرواية، وأنه بُني عام 1111ه، إضافةً إلى ما ورد في كثيرٍ من الكتب التاريخية والمناهج الدراسية حول بناء هذا المرقب، وأن هذا التاريخ هو تاريخ البناء، وهي الرواية الوحيدة التي أوردها عبدالرحمن الصويان كذلك في كتابه (صفحات مطوية من تاريخنا الشعبي) وإن لم يجزم بها، والنقولات عن الكتب والمصادر التاريخية في معظم المواقع الإلكترونية تنص في غالبها على هذا العام المتقدم في بداية القرن الثاني عشر الهجري، ومن ذلك ما ورد من صحيح الروايات في موسوعة الويكيبيديا عن تاريخ بنائه نقلاً عن بعض المصادر والكتب، والتواريخ الأخرى المحتملة -مع التقدير لكتَّابها- ينقصها جميعاً الدليل القوي، وربما التبس عليهم بعض تواريخ ترميماته أو إعادة بنائه على أنها تاريخ البناء! وللقيمة الكبيرة للروايات الشفهية المتواترة مكانتها في الروايات التاريخية، فإن ورود بعض الروايات الشفهية من قدماء سكان الشنانة تؤكد أن بناء المرقب كان قديماً، وأنه عام 1111ه لأنه تاريخ متقدم. ومن ذلك ما يقوله ويكرره بعض كبار السن أن البناء قديم جداً تزامن مع تأسيس الشنانة المتقدم، وشارك فيه عدد من الرجال من عدة عشائر وأُسر من رجال الشنانة القدامى، وربما أن أول ذكرٍ للمرقب كتدوين تاريخي في كُتب التاريخ ما أورده ابن بشر في تاريخه بوصفه (قلعتها) بقوله عن حملة طوسون باشا التي حاصرت الشنانة عام 1230ه، مع ملاحظة الضعف المعروف للتدوين التاريخي قديماً قبل هذه الحملة المصرية وغيرها: «وانحاز عدة رجال منهم إلى الشنانة النخل المعروف فوق الرس، وصاروا في قلعتها». (عنوان المجد في تاريخ نجد: ج1/377-378) وعبدالرحمن الصويان مؤلف كتاب (صفحات مطوية من تاريخنا الشعبي) يعزو ضعف تحديد تاريخ البناء، أو عدم تحديد الباني له بأنه بسبب قِدم البناء، فيقول: لم أجد مصدراً يُوثِّق تحديد تاريخ بناء مرقب الشنانة! أو تحديد الشخص الذي بناه! وقد يكون السبب قِدَم تاريخ البناء، أو كوْن المرقب تعرض بعضه للهدم عدة مرات، ومن ثم كان يُعاد بناؤه وهو الأرجح، أو تجديده وترميمه. ولهذا فإن الصويان الذي قال: لم أجد مصدراً يوثِّق تحديد البناء للمرقب؛ يقول في الوقت ذاته بصيغة الاحتمال وليس الترجيح: إن شارخ المحفوظي من العجمان ربما هو الذي بَنَى المرقب وهو المتوفى عام 1232ه. وهذا القول ربما يكون صحيحاً في حالة إعادة بنائه من قِبل شارخ زمن بداية الحملات 1230ه بعد تعرضه للهدم! لاسيما أن الأمير شارخ وبعض أولاده سكنوا الشنانة. (صفحات مطوية من تاريخنا الشعبي، ص15) ومن أدلة الترجيح أن التواريخ الواردة بعد هذا التاريخ 1111ه لا يمكن أن تكون مجهولةً عند الناس أو الرواة إلى هذا الحد، أو أن يكون الخلاف حولها إلى هذا المدى، ولذلك فمن المُرجَّح -وفق ما سبق- أن فريح التميمي قام بترميم المرقب! أو أعاد بناءه! حينما كان شارخ أميراً للرس والشنانة، وذلك بعد هدم تعرض له عام 1230ه أو 1232ه زمن حملات طوسون وإبراهيم باشا العدوانية على الشنانة ولم يقم فريح بتأسيس البناء، وبهذه الروايات تضعف كثيراً مرويات أنه بُني قبيل غزوات طوسون وإبراهيم باشا أو أثنائها (1230-1232ه). - الترجيح بين الروايات وردت روايات كثيرة وفي بعضها تضارب -كما ورد في بعض الكتب- حول بناء المرقب أو الباني له، لكن هذه الروايات ينقصها الدليل القوي، أو الاستدلال الصحيح مع الاحترام العلمي لتلك الاجتهادات. وخلاصة الأقوال والروايات عن هذا الموضوع وما فيه من ترجيحات أن معظم الروايات والمقارنات التاريخية تواترت إلى حدٍّ كبير بأنه بُني عام 1111ه للاعتبارات التالية: أولاً: لأن هذا التاريخ هو المعتمد لدى وزارة المعارف المعنية بالآثار سابقاً، وهو ما دوَّنته الوزارة رسمياً في معلوماتها عن هذا المرقب، ومن المؤكد أن الوزارة اعتمدت على أدلة راجحة وقوية. ثانياً: يُرجِّح هذا التاريخ ويقوِّيه رواية صالح بن سليمان السلومي -رحمه الله-، بل يؤكدها، حيث يذكر أنه رأى بنفسه قديماً في أحد الأدوار من المرقب تاريخ البناء، وذلك قبل عمليات الترميم الرسمية الأخيرة له، والتاريخ السابق مُسح أو تَمَّ العبث به، وصالح السلومي هذا يؤكد أنه شهد بنفسه زيارة وفد من السفراء الأجانب للمرقب، وكانوا في جولة سياحية على عموم الآثار في المملكة حسب سماعه منهم، وكان من ضمن الوفد الرسمي أفارقة وأوروبيون وغيرهم، وكان برفقتهم لزيارة مرقب الشنانة أحد وُجهاء الرس، وهو الشيخ حمد المالك -رحمه الله-، وذلك حوالي عام 1380ه، وكان تاريخ البناء موضع نقاش بينهم، واستطاعوا تحديد تاريخ بناء المرقب بأنه كان عام 1111ه من خلال النواظير المُكبِّرة التي استخدموها، ووجَّهوها على الكتابة المحفورة بالطين بأحد أدوار المرقب قبل العبث بالتاريخ. ثالثاً: أن حجم الكتابات التاريخية بترجيح عام 1111ه تفوق ما يخالفها بكثير وتدعمها أدلتها القوية، كيف إذا أضيف لها الروايات الشفهية من العميري والسلومي وغيرهما كما سبق! رابعاً: كدليل استنتاجي أن بعض الاختلافات حول تاريخ البناء كلها مما يُعزِّز بصفة قاطعة قِدَمه، وهو ما يكاد يؤكد أنه بُني عام 1111ه، ومما يُرجِّح تحديد هذا التاريخ أو تأكيده أن معظم أحداث الشنانة وتواريخها القريبة كحصار ابن رشيد للشنانة وقطعتها ومعركة الوادي بتفاصيلها رواها الآباء والأجداد لمعاصرتها لحياتهم وحياة آبائهم دون اختلاف في مروياتهم، كما أن حوادث وأحداث حملات الباشا 1230-1232ه كان التناقل لها كذلك مشافهةً من بعض الآباء عن الأجداد دون تعارض، كما كان التدوين التاريخي لدى المؤرخين كذلك، لكن الاختلاف حول بناء المرقب أمر آخر، وهذا الواقع لبعض الروايات المضطربة عن تاريخ البناء كاستنتاج منطقي مما يُرجح قِدَم البناء وأنه قبل غزوات الباشا، وهو ما يُعزِّز رواية أنه كان عام 1111ه مالم يتأكد غير هذه الرواية من تواريخٍ قديمة ومحدَّدة، وبأدلةٍ أقوى من أدلة هذا الترجيح. خامساً: أن قِدَم البناء مع وجود روايات وكتابات أو وثائق عن الأملاك وحدودها يُعدُّ من أقوى الأدلة، ومنها بعض ما يتداول من وثائق عن استقرار آل جنيزر الباهلي في الشنانة في القرن الحادي عشر الهجري، إضافةً إلى روايات أخرى متواترة بأن المرقب بني بأرض الجنيزر الباهلي، وكان هؤلاء وحدهم من أهالي الشنانة القدامى ضمن اللجنة الرسمية المُشكَّلة من محكمة الرس وإدارة التعليم بغرض تحديد سور المرقب لاعتماده ضمن الآثار، فليس لغيرهم جوار للمرقب حسب هذه اللجنة، وهذا يطرح التساؤل بأن هذه العائلة (الجنيزر) ربما كان لها دور في بنائه أو مع غيرها وذلك في بداية القرن الحادي عشر الهجري 1111ه، ومعظم هذه الروايات والاستنتاجات مجتمعة مما يُعزِّز أن البناء كان عام 1111ه، وهو الأرجَح بهذه الاعتبارات والاستنتاجات والأقوال والروايات. والخلاصة حول التدوين التاريخي أن القراءة العلمية الموضوعية تجاه الاختلاف في الآراء، وحول بعض الروايات بضعفها أو عدم قوتها يطرح بقوة أهمية البحث والتقصي في مراكز المخطوطات العالمية كمصر وتركيا، وكذلك في المكتبات السعودية عامة وعلى رأسها مكتبة وأرشيف دارة الملك عبدالعزيز، وتتأكد الأهمية بحق الجهات والهيئات المعنية بكتب التراث والتاريخ وكتب الرحالة والمستشرقين وتقاريرهم، وهذا البحث والبحوث المقترحة هي جميعاً ما يمكن أن تكشف عن كثير من القضايا التاريخية عن بلدات هذا الوطن وتراثه التاريخي. وتتأكد المسؤولية أكثر على الجهة المعنية بالسياحة والآثار والتراث (الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني) بالقصيم تحديداً أن تتصدر بذاتها إخراج المطويات (البروشورات) والأفلام الوثائقية الرسمية بتوثيق تاريخي من المختصين في الدراسات التاريخية لهذا المعلم التاريخي والموروث العام، وذلك منعاً للاجتهادات الفردية التي ربما تشوه الجانب المعرفي للتاريخ السعودي بوحدته الغالية وتراثه. ** ** د. محمد بن عبدالله السلومي - باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث