ورشة للتعريف بنظام الزراعة وأدلة ونظام أسواق النفع بعسير    «مدينة الصين».. وجهة زوار «سيتي ووك»    واجهة روشن البحرية.. وجهة مثالية لممارسي الرياضة    "نيوم" يدعم صفوفه بالحارس مصطفى ملائكة    فيصل بن فرحان يتلقى اتصالاً هاتفياً من وزير خارجية أمريكا    انطلاق كأس العالم للرياضات الإلكترونية في الرياض    جحفلي يرحل عن الهلال    الشورى يدعو «تنمية الصادرات» لدعم المنشآت ورفع قدرات المصدرين    أمير القصيم يكرم منتسبي الصحة.. ويتسلم تقرير جمعية المتقاعدين    انطلاق فعاليات الخيمة النجرانية ضمن مهرجان «صيفنا هايل 2024»    المفتي العام يستقبل مسؤولين في الطائف ويثني على جمعية «إحسان» للأيتام    الحجاج يجولون في المعالم التاريخية بالمدينة المنورة قبل المغادرة لأوطانهم    سباعي روشن يتنافسون في ربع نهائي يورو 2024    حقيقة إعلان بيولي تولي تدريب الاتحاد    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يبلغ 87.34 دولار للبرميل    خروج 17 ألف مواطن من سوق العمل بيونيو    ولي العهد يستعرض مع السيناتور الأمريكي كوري بوكر أوجه التعاون    فنون الأجداد بروح الشباب    "واتساب" يتيح إنشاء الصور الشخصية ب "الذكاء"    وزير الخارجية يهنئ نظيره المصري بتوليه مهمات منصبه الجديد    السجن سبع سنوات وغرامة مليون ريال لمرتكب جريمة احتيال مالي    ماكرون يحضّ نتانياهو على «منع اشتعال» جبهة لبنان    «البيت الأبيض»: الرئيس بايدن ماضٍ في حملته الانتخابية    السودان.. القتال يتجدد في أم درمان    %59.88 من مشتركي التأمينات تشملهم التعديلات الجديدة    عروض شعبية ببيت حائل    الربيعة يتفقد برامج إغاثة متضرري الزلزال في سوريا وتركيا    جامعة أم القرى تبدأ استقبال طلبات القبول    بن مشيبه متحدثاً لوزارة الحرس الوطني‬⁩    «حرس الحدود» بعسير يحبط تهريب 15 كيلوغراماً من الحشيش    جمعية البر بالشرقية تطلق برنامج إرشادي لمكافحة الإدمان    نائب أمير الجوف يعزي التمياط    ضيوف الرحمن يغادرون المدينة المنورة إلى أوطانهم    الوفاء .. نبل وأخلاق وأثر يبقى    أرامكو والراجحي يقودان "تاسي" للتراجع    الأمير سعود بن نهار يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية اليقظة الخيرية    الحرارة أعلى درجتين في يوليو وأغسطس بمعظم المناطق    الدكتور السبتي ينوه بدعم القيادة غير المحدود لقطاع التعليم والتدريب في المملكة    موسكو تسجل أعلى درجة حرارة منذ 134 عاماً    بدء أعمال الصيانة ورفع كفاءة وتطوير طريق الملك فهد بالدمام اليوم    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس غرفة الخرج    محلي البكيرية يناقش الأمن الغذائي للمنتجات الزراعية وإيجاد عيادات طبية    بناء محطة فضائية مدارية جديدة بحلول عام 2033    اتحاد القدم يعين البرازيلي ماريو جورجي مدرباً للمنتخب تحت 17 عاماً    تجسيداً لنهج الأبواب المفتوحة.. أمراء المناطق يتلمسون هموم المواطنين    «السياحة»: 45 مليار ريال إنفاق الزوّار القادمين إلى المملكة    وصول التوأم السيامي البوركيني الرياض    90 موهوبًا يبدأون رحلة البحث والابتكار    أزياء المضيفات    ازدواجية السوق الحرة    أمير الشرقية: مشروعات نوعية ستشهدها المنطقة خلال السنوات المقبلة    أمير القصيم ينوه بعناية القيادة بالمشروعات التنموية    الحج .. يُسر و طمأنينة وجهود موفقة    هنّأ رئيس موريتانيا وحاكم كومنولث أستراليا.. خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    تأثير التكنولوجيا ودورها في المجتمع الحديث    "التخصصي" يجري 5000 عملية زراعة كلى ناجحة    أمير القصيم يكرّم عدداً من الكوادر بالشؤون الصحية في المنطقة    "الطبية" تعالج شلل الأحبال الصوتية الأحادي لطفل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إرهاصات النشأة وتطلعات المستقبل
مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية
نشر في الجزيرة يوم 09 - 10 - 2020

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، بهذه الورقة الوجيزة نتناول مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وستأتي في محورين: الأول: ما قبلَ المجمع، وهي إرهاصاتُ النشأة، والثاني ما بعد المجمع، وهو المستقبلُ الذي نتطلّعُ إليه ونستشرفُه.
المحورِ الأول: ما قبل المجمع:
في عام 1345ه -أي قبلَ ما يقارب القرن- أصدرَ محمد سرور الصبان كتابًا جمعَ فيه جملةً من الآراءِ والنصوصِ النثريةِ في اللغةِ والأدبِ في بلادِنا، تحتَ عنوان (المَعْرِض)، وكان الصبّانُ حريصًا فيه على مناقشةِ قضيةٍ أدبيةٍ مُلحّة، في ذلك الوقت، طرحَها على صورةِ استفاء، وجاء السؤالُ الرئيسُ فيه: (هل من مصلحةِ الأمةِ العربية أن يُحافظَ كُتّابُها وخطباؤُها على أساليبِ اللغةِ العربيةِ الفصحى؟، أو يجنحوا إلى التطورِ الحديث؟، ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم قيودِ اللغة.. ويسيروا على طريقةٍ حديثةٍ عامةٍ مطلقةٍ من القيود).. كان هذا هو السؤالُ الرئيس، وكانت الإجابةُ منحازةً إلى اللغةِ العربية وشرطِ نقائها.
وبعد ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1371ه أي قبل سبعين سنة وفي عهد الملك عبدالعزيز أيضًا، كتب محمد سرور الصبان أيضا، مقدمة لمعجم تهذيب الصحاح للزنجاني الذي حققه أحمد عبدالغفور عطار بصحبة عبدِالسلام هارون، كان هذا العملُ من الأعمالِ المعجمية المبكرة في بلادنا، وأهدى الصبانُ ذلك الكتابَ اللغويَّ إلى الملك عبدالعزيز، وقال في الإهداء: «يا صاحبَ الجلالة؛ لقد منّ الله على جزيرة العرب فجعلك عليها والياً، وللقرآن حامياً، وللغته حارسًا، ووفقك لأن تنصر اللغةَ العربيةَ وتعزَّها بما وُهِبَ لك من قدرةٍ قادرةٍ على النصر والإعزازِ والتمكين.. (ثم يقول): وأنتم يا صاحب الجلالة أجدرُ من أهدي إليه هذا المعجمَ الذي جمع فيه مؤلفُهُ من صحيحِ العربيةِ ما يُوثقُ به، ويطمأن إليه، وأضاف إليه محققاه في حواشيه ما ندر من معارفِ اللغةِ وغرائبِ التحقيق، وفرائدِ التأصيل، ما جعل هذا المعجمَ العربيَّ جديرًا بأنْ يُرفعَ إلى مقامِكم الكريم، فأنت ملكُ العرب، وحارسُ العربية، ومعزُّ العروبةِ ومحيي السنة».
وفي تقديمه أشار الصبان إلى حلم البلادِ السعودية في إنشاء مجمعٍ لغويٍّ سعودي..
ثم نرى بعدَ أربع (أي في عام 1375ه) عملاً لغويًا كبيرًا تلقته الأمة بالسرور والتَّرحاب وهو تحقيق معجم الصحاح للجوهري بجهودِ محققه السعودي أحمد عبدالغفور عطار، والأجمل في هذا العمل أن من كتب مقدمته هو الملك فهد بن عبدالعزيز حين كان وزيرًا للمعارف في عهد الملك سعود.... أشار الملك فهد في مقدمته إلى القيمة اللغوية الكبيرة لمعجم الصحاح للجوهري، وإلى الجهد الكبير الذي بذله العطار في التحقيق، وامتدحَ مقدمة العطار التاريخية عن المدارس المعجمية، وهي مقدمةٌ تعدل كتابًا مستقلاً وتضاهي في بعض جوانبها كتاب حسين نصار عن المعجم العربي، قال الملك فهد: «والحقّ أن هذا الكتاب ومعه مقدمة العطار هو أول بحث علمي في بلادنا، يقوم على قواعد محكمة، ومنهج علمي دقيق تشارك به بلادنا شقيقاتِها، فليس في هذا البحث فضول، بل كله بحث وعلم، وبيانه آية في الروعة والجمال، وحسبنا أنه أسلوب العطار وبيان العطّار».
***
ذلك شيءٌ من البداياتِ ووضعِ الأساسِ اللغوي في دولتِنا الفتيّةِ حينئذ، واستمرتْ عناية ملوك المملكة العربية السعودية باللغة العربية وآدابِها، فظهر في بلادنا أعلام في اللغة والأدب وتحقيق التراث، ومن أبرزهم حمزة شحاتة، وحمد الجاسر، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد حسين زيدان، وحسين سرحان، وأحمد الغزاوي، وعبدالله عبدالجبّار، ومحمد علي السنوسي، وعبدالله بن خميس، وعبدالله بن إدريس، وأبو تراب الظاهري، وطاهر زمخشري، ومحمود عارف، وعبدالكريم الجهيمان، ويحيى المعلمي، وعبدالعزيز الخويطر، وأبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري.. وغيرُهم، ويمكن عدّهم الجيلَ الأول.. وكان لهم نتاجٌ وفيرٌ في اللغةِ والأدبِ والثقافة.
ثم أعقبتهم أجيالٌ من اللغويين والأدباء، وأكثرهم من الأكاديميين وأساتذة الجامعات، وهم اليوم بالمئات، يشاركون في الحركة اللغوية والأدبية في بلادنا، ومن أبرزهم: راشد الراجح وحسن باجودة ومنصور الحازمي وعبدالرحمن العثيمين وعوض القوزي ومحمد المفدّى وأحمد الضبيب ومحمد يعقوب تركستاني وعبدالمحسن فراج القحطاني وعبدالله المعطاني وعبدالله الغذّامي، وأبو أوس إبراهيم الشمسان وسُليمان العايد، وتركي بن سهو العتيبي.. وهذا هو الجيل الثاني، وجاء بعدهم جيل ثالث فيهم كثيرٌ من اللغويين والأدباء والشعراء.
وهكذا تعاقبتِ الأجيالُ من المبدعين في اللغة والأدب، وكان نتاجهم الإبداعي مع ما تناهى إلى الأمة من التراث العربي الرفيع هو المادة اللغوية والأدبية التي تغذّت عليها الذائقةُ العامة والأجيالُ الناشئة في الدوراتِ الزمنية منذ عهد الملك عبدالعزيز إلى عهد الملك سلمان، يحفظُهُ الله.
ويلحق بذلك المجمعيّون السعوديون الخالدون أعضاء المجامع العربية، وهم اثنا عشر عضوًا عاملاً ومراسلاً، أقدمهم حمد الجاسر، كان انضمامه لمجمع القاهرة عضوًا عاملاً بتاريخ 1378ه/ 1959م، وجاء بعده ثلاثة أعضاء دخلوا المجمع (أعضاء مراسلين) بتاريخ 1396ه/ 1976م، وهم: عبدالله بن خميس، وحسن القرشي، وعبدالعزيز الرفاعي، وبعد ذلك انضم كل من: يحيى المعلمي، وأبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، وأحمد الضبيب، ومحمد الربيّع، وعوض القوزي، وعبدالعزيز بن عثمان التويجري، ثم عبدالله العثيمين وعائض بن بنية الردادي.. وأخيرًا عبدالله عسيلان، وأكثرهم أعضاء مراسلون، والأعضاء العاملون اثنان: حمد الجاسر ثم أحمد الضبيب.
***
وكان حُكّامُ هذه البلاد يرون أنّ حفظَ اللغةِ من الدين، ويرونها هُوية، ووعاءَ ثقافةٍ وفكر، فأُنشأتْ -في عهدِهم- كلياتُ اللغةِ العربية في الرياض ومكة والمدينة، وظهرت أقسام اللغة العربية والأدب والبلاغة، في جامعاتنا السعودية، وفي تلك الأقسام حصل كثير من شباب هذا الوطن على التعليم الأكاديمي وتدرجوا حتى بلغوا أعلى الرتب الأكاديمية، وألفوا وشاركوا في تحقيق التراث.
وأُنشأت ستة معاهد حكومية منتشرة في مناطق المملكة وجامعاتها لتعليم العربية لغير الناطقين بها، كان من أوائلها معهدُ تعليم اللغة العربية بالجامعة الإسلامية منذ عام 1386ه.
ويضافُ إلى ذلك عدد متنوع من الملتقيات، والكراسي العلمية، والمبادرات، والبرامج العلميّة، والمراكز والجمعيات والأندية الأدبية.. وجوائز عالمية من أبرزها (جائزة الملك فيصل العالمية) التي منحت لعدد من اللغويين والأدباء في الوطن العربي.
ورأينا نشاطاتٍ فردية ثرية في الصالونات الأدبية والأسبوعيات والشهريات الثقافية، ثم رأينا نشاطا ثريًّا تنقله المنصّات الاجتماعية، تويتر والفيس بوك وقنوات اليوتيوب، وهو نشاطٌ ثريٌّ متنوّع يستحقُّ أن يُكتبَ في توصيفِهِ ونقدِه دراساتٌ عدّة.
وقبل سنواتٍ أُنشئ (مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية) وكان مؤسسةً لغويةً فخمة، بُنيت أهدافه على الرغبة في المحافظة على سلامة اللغة العربية. وإيجاد البيئة الملائمة لتطويرها وترسيخها ونشرها. والإسهام في دعمها وتعلمها. والعناية بالتحقيق والنشر العلمي والمراجعات اللغوية. مع تمثيل المملكة خارجيًا في شؤون اللغة العربية وخدمتها. فكنا بهذا المركز على بعد خطوتين من المجمعِ الذي نحلُمُ به، وقد بذل أمينه العام الأستاذ الدكتور عبدالله الوشمي جهودًا كبيرةً في نشاطِه اللغوي في عقد من الزمان ويزيد، ووضع بصمته المميزة، وأقام المركز في عهده عديدًا من المناشط اللغوية والمؤتمرات والندوات وحلقاتِ النقاشِ العلمية والشراكات، وامتد نشاطه إلى خارج الحدود في كثير من بلدان العالم، وأنجز عديدًا من الدراسات والأبحاث في جوانب لغوية متنوعة.
***
وكانت اللغةُ العربيةِ حاضرةً في الأنظمةِ السعودية وقراراتِ مجلس الوزراء، فقد جاء في المادة الأولى من النظامِ الأساسي للحكم: «المملكة العربية السعودية، دولةٌ عربيةٌ إسلامية، ذاتُ سيادةٍ تامة، دينُها الإسلام، ودستورُها كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولغتُها هي اللغةُ العربية» انتهى. ونرى اللغةَ محل اهتمام مشرعي النظام الحكومي في عديد من التشريعات والتعاميم، وما كان ذلك إلا إيمانًا بها وسعيًا إلى حمايتِها وحفظِها.
واللغةُ العربيةُ حاضرة في وجدان ملوكها وأقوالهم، ومن ذلك قول الملك سلمان بن عبدالعزيز: «قامت المملكة العربية السعودية على أساس متين يتمثل في عقيدة الإسلام الذي نزل كتابه بلسان عربي مبين، لقد كرم الله العرب بأن أنزل القرآن الكريم بلغتهم فشرف هذه اللغة تشريفًا ما بعده تشريف، وزادها قوة وحضورًا».
وقال حفظه الله: «إن لغتنا العربية لغة حضارة وثقافة، وقبل ذلك لغة الدين القويم، ومن هنا فإنها لغةٌ (عالميةٌ) كبرى، شملتْ المعتقداتِ والثقافاتِ والحضارات، ودخلت في مختلف المجتمعاتِ العالمية، وهي مثالٌ للغةِ (الحية)، التي تؤثرُ وتتأثرُ بغيرِها من اللغات».
***
ويرِدُ هنا سؤال في شأنِ اللغة: لماذا تحظى اللغة بهذا الاهتمامِ وهذا التقدير؟ ولماذا تنفقُ الدولةُ الكثيرَ من الأموال على تعليمِها وإعدادِ برامجِها وإنشاءِ مؤسساتِها الأكاديمية؟ والجواب: أنّ اللغةَ هي الهُويّة وهي وعاءُ الثقافة ومستودعُ الفكر، وضميرُ الأمة، (اللغة: هُويّة ناطقة) كما يقول عبدالله البريدي، وهذا تعريفها من وجهة نظرٍ اجتماعيةٍ تداوليةٍ (براغماتية) وهو يجمع بين هوية الأنا التي تعود إلى النفس وهوية الذات التي تعود إلى المجتمع. (اللغة هوية ناطقة 23).
يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: «إنّ لغتي هي مسكني، وهي وطني ومستقرّي، وهي حدودُ عالمي الحميم، ومعالمُهُ وتضاريسُه، ومن نوافذِها ومن خلالِ عيونِها أنظرُ إلى بقيّةِ أرجاءِ الكونِ الواسع» (نقلا عن: اللغة هوية ناطقة 28) ويقول ديفد كريستال: «الأمةُ من دونِ لغةٍ هي أمةٌ بلا قلب». (موت اللغة لديفيد كرستال) وأقول: ليس بوسعِك أن تنتمي إلى أمّة إن كنتَ لا تعرف لغتها، فإن كنتَ تعرفُها وتخطئُ فيها فانتماؤك منقوصٌ ومثلوب.
وحين نتحدث عن العربية في ذاتها نقول: العربيةُ هُويتنا الناطقة، وهي من أكمل اللغات في نحوها ومعجمها وأساليبها البلاغية، وهي لغةٌ مقدّسة، رفعها الله بالقرآن، فكانت مستودعَ تاريخِنا وتراثِنا على امتدادِ 14 قرنًا، وهي واحدةٌ من أعظم اللغات العالمية، أقرّ بذلك من درسها وعرف أسرارها من العرب والمستشرقين. ولغتُنا العربية جديرة بالعناية، وما أحراها وما أجدرَها وهي في بلدها الذي نبعت منه وفيه تشكّلت لهجاتها وأساليبها أن يكون لها مجمع يليق بها.
***
المحور الثاني من هذا الورقة:
ما بعدَ المجمع: أو (المستقبلُ الذي نتطلعُ إليه ونستشرفُه).
كان إنشاءُ مجمعٍ للغةِ العربية في بلادنا حُلُمًا وأمنيّةً عزيزة نتحدث عنها بكثير من الأمل، فأصبحت الأمنيّةُ حقيقةً، بعد موافقةِ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز على إنشائه، في قرار تاريخي في مسيرة لغتنا وثقافتنا العربية، فجاء مجمعُنا الوليدُ كيانًا عالميًّا لخدمةِ اللغة العربية، يعكس عالميةَ لغتِنا ومكانةَ بلادنا، ولم يكن ذلك غريبًا على قيادتنا، فالمملكة العربية السعودية هي مهبطُ الوحي ومنبعُ العربيةِ الفصحى ومصدرُ لهجاتِها وتراثِها الشعري منذ أكثر من 14 قرنًا، ومن أرضِها جُمعتِ اللغةُ في عصورِ الاحتجاج. ومن المنتظرِ أن يُبرزَ هذا المجمعُ مكانةَ بلادِنا ويؤكّدَ ريادتَها في خدمةِ اللغةِ والثقافةِ العربيةِ والإسلامية، ويعزّزَ حضورَها الثقافيَّ عالميًّا، ويُسهمَ في إثراءِ المحتوى العربي في مختلفِ المجالات.
لقد نجحتْ وزارةُ الثقافة في إطلاقِ مبادرتِها المجمعية ونجحتْ في رهانِها على العُمقِ الثقافي واللغوي في البلاد، فجاءَ القرارُ استجابةً للتطلعاتِ والآمال، وجاءت رؤيةُ المجمعِ طَمُوحةً متجاوزةً الحدودَ الجغرافية.. وجاء في منشورِ الوزارةِ أنّ المجمعَ: يسعى إلى أن يصبح (مرجِعًا عالميًّا) في مجالاتِ اللغةِ العربيةِ وتطبيقاتِها من خلال؛ نشرِ الأبحاثِ والكتبِ المتخصصةِ في اللغةِ العربية، ومرجِعًا في الاختباراتِ والمعاييرِ في اللغةِ العربية، وفي الذكاءِ الاصطناعي في علومِ اللغةِ العربية، وقال المنشورُ: إن المجمعَ يستهدفُ: المتخصصينَ في اللغةِ العربيةِ من أبنائِها ومن غيرِهم، ومن العاملينَ في مجالاتِ السياسةِ والتقنيةِ والتعليمِ وإنتاجِ المحتوى.
هذا هو مجمعُنا العالمي، مجمعُ الملكِ سلمان كما ظهر في منشوراتِه الأولى ورؤيتِه المعلنة، وهو اليوم في إجراءاتِ التأسيسِ وطورِ التكوين.. فما الذي نُريدُهُ من المجمع؟ وما تطلّعاتُ المستقبل؟ إنّ الطموحَ كبير، والآمالُ لا حدودَ لها، ولعلّنا حين نأملُ ونحلمُ نحمِّلُ الواقعَ ما لا يطيق ونطوي المستقبلَ أمامَنا ونتعجّل الثمار، ولكنَّ المجمعَ أطمعَنا في ذلك بما جاء في منشورِه ورؤيتِه وأهدافِهِ المعلنة، فمن حقّنا أن نحلمَ ونتطلّع.. وسيتحقّقُ الحلمُ -إن شاء الله- برجالِ المجمعِ وبهذه الدولةِ السعوديةِ التي تقفُ خلفَه بكلِّ ثباتٍ وعزم.
* فأوّل ما نأملُهُ من حكومتِنا الرشيدة أنْ تُمكّنَ لهذا المجمع وتجعلَ له سلطةً تحمي قراراتِهِ وتضمنُ تطبيقَها على الوجهِ الأكمل. وهذا سيمكّنُ المجمعَ من اعتمادِ (الرخصةِ اللغوية). وأقترحُ أن تصدرَ (الرخصةُ اللغوية) من المجمعِ بالتعاون مع الجهاتِ الحكوميةِ المعنيةِ بإصدارِ التراخيصِ للأعمالِ العلمية والتجاريةِ وما يلحقُ بها، ومن حقِّ المجمعِ أن يُصدرَ لائحةَ المخالفاتِ اللغويةِ لردعِ المخالفين ومنعِ انتهاكِ حُرمةِ اللغة.
* ومما نريدُهُ من مجمعنا الفتيّ أن: يجسدَ ريادةَ بلادنِا السعودية في خدمة اللغة العربية، بوصفها منبعَ العُروبةِ والعربية، والمصدرَ الأصيل للهجاتِها وشعرِها وآدابِها، وعاداتِها، وتاريخِها، وحضارتِها، ومن أرضِها جُمعتِ اللغةُ في عصورِ الاحتجاج.
* وفي الأعمالِ العلميةِ نتوقّعُ أنْ يبدأَ مجمعُنا الفتيّ من حيثُ ما انتهتْ إليه المجامعُ العربيةُ العريقة، ونحسبُه لن يعيدَ تجاربَ سابقةً لهم.
* ونريدُ من هذا المجمعِ أن يفتحَ آفاقًا جديدةً من التطبيقاتِ اللغويةِ الحديثة، والبرمجياتِ المتطورة على مستوى التعليمِ ونشرِ الأبحاث، وعلى مستوى إقامةِ المعارضِ والمؤتمرات، والمراكزِ التعليمية، والمبادراتِ الذكية. مما يرسّخُ ريادةَ بلادِنا السعودية في خدمةِ لغةِ القرآنِ الكريم.
* ونريد منه العنايةَ بالاقتصادِ المعرفي الذي يدورُ في نطاقِ الإنسانِ والتقنيةِ والتدريبِ والبحثِ ا لعلمي، وأولُ أدواتِ الاقتصادِ المعرفي: هو اللغة، استخدامًا وابتكارًا وتوظيفًا وبناءً للمعلومات، ليكون المجمعُ مؤسّسةً فاعلةً في المنظومةِ العامّة لتحقيقِ رؤيةِ بلادنا 2030.
* ونريد منه رعايةَ النموِّ اللغويِّ في التوليدِ والاشتقاقِ والارتجال، لأنَّ من سماتِ اللغةِ الحيةِ النموُّ المنضبط، وأنّها لا تتوقّف عن توليدِ الألفاظِ، وصناعةِ المصطلحاتِ في كلِّ حين. فإن توقفت عن النموِّ ماتتْ وابتلعتْها اللغاتُ الأجنبيةُ الغازية.
* ونأملُ من هذا المجمع أن يُعنى بصناعةِ المعاجم، وعلى رأسِها المعجمُ التاريخي، الذي يُعدُّ مشروعَ أمّة، ولعل المجمعَ يعقدُ شراكةً علميةً مع مجمعِ الشارقة، الذي يخطو خطواتِهِ الأولى في هذا النوعِ من المعاجم، وليس في طوقِ مجمعٍ واحدٍ من مجامعِنا العربيةِ أن ينجزَ المعجم التاريخي، ومعلومٌ أنَّ المعاجمَ التاريخيةَ لبعضِ اللغاتِ العالمية، كالإنجليزية والألمانية والفرنسية استغرقَ إنجازُها عشراتِ السنين مع الكثيرِ من الجُهدِ والمال.
* ونآمل أن يتبنّى المجمعُ (المعجمَ الحيَّ للعربية) وهو مشروعٌ معجمي طموح، ومن شرطِهِ العنايةُ بالنموِّ اللغوي والتوليدِ المنضبط وصناعةِ المصطلحات. ومعلومٌ أنّ وراءَ المعجمِ الحيّ النامي أمّةً حيّةً منتجة، فاللغةُ والمعاجمُ مرآةُ الأمم.
* ونأملُ أنْ يكونَ لمجمعِنا دورٌ مؤثرٌ في معالجةِ تأخّرِ العربيةِ في صناعةِ المصطلحاتِ وتعريبِها، فلم تعدْ لغتُنا صانعةً لألفاظِ الحضارة، وتراختْ كثيرًا في التعريب، ونحن اليومَ نواجُهُ طوفانًا من المصطلحاتِ في كلِّ مناحي حياتِنا، في الثقافةِ والرياضةِ والفنِّ والسياسةِ والصناعةِ والتجارةِ، بل حتى في العلومِ وفي أروقةِ الجامعات.
* ونأملُ من المجمعِ أنْ يُسهمَ في ترسيخِ الهُويّةِ اللغويةِ في بلادِنا وأنْ يُعيدَ للغةِ العربيةِ هيبتَها، في الجامعاتِ وفي وسائلِ الإعلام وأسواقِ العمل وفي الشركاتِ والفنادقِ وفي المؤتمراتِ العلمية، فلغتُنا العربيةُ تواجهُ تحدّياتٍ ثقافيةً تزيدُ يومًا بعدَ يوم.
* ونرجو أن تكونَ مشكلةُ التعليم بلغاتٍ أجنبيةِ في بعض التخصصاتِ في جامعاتِنا على جدولِ الأعمالِ المستقبلي لمجمعِنا الفتيّ، ولعلَّ التعاونَ مع الجامعاتِ يثمرُ عن شيءٍ من الحلول.
* ونأمل من المجمعِ أن يسعى إلى إعدادِ (اختباراتِ قياسٍ عالميةٍ) للغةِ العربية (على غرار التوفل) بالتعاونِ مع المركزِ الوطنيِّ للقياس.
* ونريدُ منه أن يستثمر في خبراتِ اللغويينَ والأدباءِ في بلادِنا، وأن يسعى إلى توظيفِها لما يخدمُ أهدافَه.
* ونرجو أن يُقيمَ شراكاتٍ علميةً فعّالةً مع كلياتِ اللغةِ العربية وأقسامِها ومؤسساتِها، ومع أصحابِ المبادراتِ الفرديةِ، ومع الباحثينَ الجادّين، وأن يرسمَ خطّةً تتسمُ بالشمولِ والتكاملِ وتضمنُ الإنجاز.
* ونريد لهذا المجمع أن يكونَ مرجعًا فيما يختلفُ فيه اللغويون في مسائل التوليدِ والقياسِ والنوازلِ اللغوية، وأن تكونَ قراراتُهُ فاصلة.
هذه جملة من الرغباتِ والتطلّعات والطموحاتِ والمقترحات، وهي تجسّدُ الأحلامَ الكبيرةَ المخبوءةَ في صدورِنا منذُ زمن، ونعلمُ أنّ تحقيقَها ليس بالأمرِ الهيّن، بل هو فوقَ الطاقة، ولكنَّ الصعبَ يَلينُ أمامَ هممِ القائمينَ على المجمع وبدعمٍ من الملك سلمان ووزارةِ الثقافةِ لهذا الكيانِ اللغوي، وسيتحققُ من هذا الأحلامِ والآمالِ الكثيرُ -بحول اللهِ وعونه- مع الرهان على الوقتِ والصبر، وما وُجدَ المجمعُ في عهدِ الملك سلمان إلا ليكون قويًّا قادرًا على خوضِ المصاعبِ والتّحدياتِ اللغوية.. ولغتُنا تستحقُّ وبلادُنا أهلُ لذلك، فهي منبعُ اللغةِ النقيةِ ومصدرُها، وقبلةُ المسلمين، وهي القدوةُ في كلِّ خيرٍ ومنفعة.
أسألُ اللهَ أنْ يوفّقَ القائمين على المجمع ويعينهم ويهيّئ لهم سُبُل النجاح.
** **
أ.د. عبدالرزاق الصاعدي - الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.