منذ أقل من شهر نشرتُ في هذه الجريدة مقالة بعنوان «هل تستحق أوبك قمة رابعة؟» (العدد 17461). كان ذلك بمناسبة مرور ستين عامًا على تأسيس منظمة الأقطار المصدرة للبترول «أوبك». وعددتُ في خاتمة المقال المبررات التي ما زلت أرى أنها كافية لتسويق اقتراحي، وبعثت نسخة من المقال للأخ محمد باركندو الأمين العام للمنظمة في فيينا، الذي قال لي في مناسبة سابقة إن الإخوة العراقيين يعدون العدة لاستضافة المؤتمر الوزاري القادم للمنظمة في بغداد، وإنهم يعيدون ترميم وبناء قاعة الشعب في باب المعظم التي شهدت الاجتماع الأول للمنظمة خلال الفترة 10-14 سبتمبر 1960. في يوم الجمعة 4 سبتمبر تلقيتُ رسالة من معالي الأمين العام، يخبرني فيها - بكل أسف - بأن هذا المؤتمر الذي يُعرف في لغة البروتوكول بالعيد الماسي قد تأجل بسبب الجائحة التي ترخي سدولها على العالم كله. وقد أرفق الأمين العام نسخة من البيان الصحفي الذي صدر عن الأمانة العامة هذا اليوم، وفيه يبدي أسفه الشديد على مرور هذه المناسبة التاريخية بشكل صامت. إذن، لا قمة ولا حتى مؤتمر وزاري تجدِّد فيه أوبك رؤيتها حول ما تشهده أسواق الطاقة من تطورات متعاقبة. من المؤسف حقًّا أن هذه ليست المرة الأولى التي تعترض الأحداث خطة أوبك لإحياء ذكرى تأسيسها؛ ففي عام 1980 كانت الترتيبات على أشدها للاحتفال بمرور عشرين عامًا على قيام المنظمة. تلك الترتيبات كانت تجري في بغداد، وفي مقر المنظمة. وقد استكتبت الأمانة العامة أحد رواد الإعلام البترولي، وهو السيد إيان سيمور رئيس تحرير نشرة مدل إيست إيكونومك سيرفي، لإعداد كتاب لهذه المناسبة التاريخية، صدر بعنوان أوبك أداة تغيير، كان ولا يزال مرجعًا من بين أربعة أو خمسة مراجع معتمدة عند من يرصدون مسيرة المنظمة. ولم يكن هذا هو المظهر الوحيد الذي أعدته المنظمة لإحياء تلك المناسبة، بل تعداها إلى أنشطة ثقافية أخرى، تمثلت في مبادرات من الدول الأعضاء، وأذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر - سيمفونية ألَّفتها الفرقة الموسيقية بجامعة كراكاس، جمعت فيها ألوانا من موسيقى الدول الأعضاء رمزًا إلى أن القاسم المشترك بين أعضاء المنظمة يتعدي الهدف الرئيسي من قيام المنظمة، وهو استقرار السوق وحمايته من التقلبات الضارة، إلى التجانس الثقافي وما ينطوي عليه من ملامح وجدانية مشتركة. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفينة أوبك؛ ففي سبتمبر من عام 1980 اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية، وانهارت كل ما أعدته الأمانة العامة لهذه المناسبة. لم تكن الحرب هي السبب الوحيد الذي خيّم على خطط أوبك ومؤتمراته، وإنما هناك حدث آخر له علاقة مباشرة بأعمال المنظمة؛ فقد اختطف العراقيون في بداية الحرب وزير النفط الإيراني محمد جواد تنيغيان، وهو على الجبهة بملابس الميدان. في هذه الأجواء عقدت أوبك مؤتمرها الثامن والخمسين في جزيرة بالي في إندونيسيا في الخامس عشر من ديسمبر من عام 1980. فطن الإندونيسيون لهذه التطورات، وأوجسوا خيفة من تبعاتها الوخيمة على مجريات المؤتمر. ونظرًا إلى أن الترتيب الأبجدي لجلوس رؤساء الوفود يقتضي أن تجلس العراق بجانب إيران فقد خشي الإندونيسيون أن يحدث ما لا تُحمد عقباه، خاصة عندما علموا أن الإيرانيين يخططون لوضع صورة وزيرهم المخطوف على مقعد إيران؛ ولهذا قرروا أن تفصل بينهما إندونيسيا، وهي الدولة المضيفة، خاصة في الجلسة الافتتاحية التي يحضرها رئيس الدولة. وهنا أعود إلى ما سجَّلته عن تلك الجلسة منذ أربعين عامًا: «وضع الإيرانيون صورة وزيرهم بالأبيض والأسود على مقعد رئيس الوفد، وقعد كلٌّ على كرسيه بانتظار رئيس الدولة. كانت الجلسة مفتوحة لوسائل الإعلام، وكان التركيز منصبًّا على الوفدين العراقيوالإيراني وهما يتبادلان النظرات والعبرات، وبينهما برزخ، هو الوفد الإندونيسي بأكمله. كان الدكتور سوبروتو وزير الطاقة الإندونيسي هو رئيس وفد بلاده، وهو إنسان - إلى جانب فضله وأدبه الجم - يتسم بصفات يطمئن لها الكثيرون، من بينها ابتسامة عريضة عندما يرسمها تستغرق تضاريس وجهه كافة، وتمتص كل ما حولها من توتر. بهذه الرؤى المتنافرة افتتح الرئيس سوهارتو المؤتمر أمام أجهزة الإعلام بمختلف أشكالها، ووقع المشهد في مصيدة أحد الصحفيين الإندونيسيين الذي شده منظر الوفدين العراقيوالإيراني وإندونيسيا تفصل بينهما؛ فصدرت جريدته في اليوم التالي تحمل في صفحتها الأولى عنوانًا بالخط الأحمر يقول: (إندونيسيا تحتل شط العرب)». والقارئ المعاصر يعرف - بلا شك - هذه المفارقة. هذا ما حدث منذ أربعين عامًا عندما كانت أوبك تقترب من عامها العشرين، وهو سبب كافٍ يجعلني - وقد عاصرت هذه الأحداث - أتمني أن تحظى المنظمة بقمة افتراضية، أو على الأقل مؤتمر وزاري، ومهرجان يليق بستين عامًا من العمل الدؤوب في خدمة الاقتصاد العالمي، واستقرار السوق البترولية، والقضاء على الفقر بأشكاله كافة. حسبنا الله ونعم الوكيل.